تعيش تركيا منذ أيام حالة حداد وحزن شديد إثر الكارثة التي حلت بأحد مناجم الفحم في منطقة “سوما” بمحافظة مانيسا، حيث وقع انفجار أدى إلى حريق هائل ذهب ضحيته حتى الآن 299 عاملاً من عمال المنجم، وسط توقعات بازدياد عدد الوفيات مع مرور الوقت رغم استمرار محاولات الانقاذ.
وعلى وقع هذه الكارثة الكبيرة التي لم تشهد تركيا مثلها منذ سنوات طويلة استنفرت الدولة كل إمكاناتها، وألغى السياسيون برامجهم وزياراتهم، واتجهت الحكومة والعارضة لمكان الحادث، وأعلنت مختلف المؤسسات والهيئات الرسمية والشعبية تضامنها وتكافلها وتقديم خدماتها لعوائل المنكوبين.
لكن، وكما كل الأحداث التي تمر بتركيا منذ السنة الفائتة، وجدت المعارضة وبعض وسائل الإعلام المحلية والعالمية الحدث فرصة للنيل من الحكومة، بينما وضع بعض المراقبين علامات استفهام كبيرة حول إمكانية أن يكون مدبراً.
ذلك أنه إضافة لحالة الاستقطاب السياسي التي ترسخت في البلاد منذ أحداث حديقة جزي في شهر أيار/مايو الماضي، هناك بعض القرائن التي ألقت بظلال من الشك حول الحادث، ومنها:
أولاً، أن الحادث أتى بعد أقل من أسبوعين على طلب من أحد نواب حزب الشعب الجمهوري المعارض قدمه لمجلس الشعب للتحقيق في مناجم الفحم والحوادث الصغيرة التي تحصل بها، وقد تم رفض الطلب بعد التصويت عليه بأصوات الحزب الحاكم.
ثانياً، كون الحادث حصل أثناء وقت تبديل “الوردية” بين العمال، أي في وقت تواجد أكبر عدد ممكن من العمال في المنجم، وهو ما تسبب في عدد الضحايا الكبير.
ثالثاً، الحملة المركزة من وسائل الإعلام المحلية والعالمية ضد الحكومة ومحاولة إبرازها وكانها المسؤولة عن الحادث، رغم أن المنجم يتبع لشركة خاصة وتقف مسؤولية الحكومة عند حدود الرقابة، بينما لم ينل الشركة ولو جزء يسير من الانتقاد.
رابعاً، اعتماد التغطية الإعلامية محلياً ودولياً على تضخيم الأمر وإظهار أخطاء الحكومة بل ونشر أخبار غير صحيحة لزيادة الغضب الشعبي ومحاولة افتعال حركة شارع احتجاجية على الحكومة، في سيناريو يشبه إلى حد كبير سيناريو أحداث “جزي” قبل عام.
خامساً، اقتراب الذكرى السنوية الأولى لأحداث حديقة “جزي” في تقسيم، والتي شهدت احتجاجات غير مسبوقة ضد الحكومة التركية، وبدا وكأن المعارضة ووسائل إعلامها تضغط بكل قوتها لافتعال حركة مظاهرات شعبية ضد الحكومة وإدامتها حتى ذكرى الأحداث في 31 من أيار/مايو القادم، لإعطائها زخماً أكبر ربما حتى من العام المنقضي.
سادساً، بعض الأخبار والشائعات التي لم تتأكد بعد، ومنها على سبيل المثال تواجد بعض الصحافيين في منطقة المنجم قبل الحادث بساعات.
لكن كل ذلك لا يؤكد نظرية التعمد وافتعال الانفجار، ولا يعدو كونها قرائن ماثلة للعيان أمام أي تحقيق جاد في الموضوع. وفي المقابل لا بد من التأكيد على النقاط التالية:
أولاً، تتحمل الحكومة المسؤولية الأخلاقية والسياسية، باعتبارها مسؤولة عن حياة المواطنين، وباعتبارها أيضاً مسؤولة عن آليات الرقابة والمتابعة للعمل في هذه المناجم.
ثانياً، الحكومة هي الجهة الوحيدة القادرة على إظهار الحقيقة بشأن ما حدث، وهي التي يجب أن تحرص على مساعدة الجهاز القضائي للقيام بتحقيق شامل وسريع لجهتين: سبب الحادث، وتحديد المسؤولين عنه. ويمكن لتحقيق دقيق في الأمر أن يجزم فيما خص فرضية التعمد في الحادث.
ثالثاً، تربص المعارضة ووسائل الإعلام المختلفة لا يعني بالضرورة التقصد وتدبير الحادث، وفي الغالب لن يتعدى استثمار الفرصة ضد حكومة يعارضونها ويريدون تغيير رئيسها، ومنعه من الترشح للرئاسة أو تقليل فرص فوزه بها، وهو أمر قد يبدو مفهوماً إلى حد ما ضمن إطار التنافس السياسي والعمل الحزبي.
رابعاً، شعور الحكومة بالاستهداف يجب أن لا يحملها على التغطية على أي تقصير أو إهمال حصل، بل يجب عليها التيقظ بشكل أكبر. فإجراءات المتابعة والمحاسبة كفيلة بتفويت الفرصة على من يحاول استثمار الأزمة، فضلاً عن أنها واجب ومسؤولية. ومن الواضح هنا أن عدم استقالة أو إقالة أي مسؤول، بل التغاضي عن محاسبة أحد مساعدي رئيس الوزراء الذي ركل مواطناً (تهجم عليه فيما يبدو) بينما كانت الشرطة تحاول اعتقاله، أعطت انطباعاً سلبياً عن مدى شفافية الحكومة في التعامل مع الأزمة والمسؤولين عنها.
خامساً، يتحمل الحزب الحاكم مسؤولية أخلاقية مضاعفة برفضه مقترح حزب الشعب الجمهوري بالتحقيق في الأمر قبل أسبوعين من الحادثة.
سادساً، رغم الأداء الميداني الجيد على الأرض من الحكومة ووزير الطاقة وفرق الإنقاذ التي عملت بلا توقف منذ ساعة الحادث، إلا أن الأداء الإعلامي للحكومة لم يتناسب مع هذا الجهد المبذول، مما أدى إلى زيادة جرعة الانتقاد الموجهة للحكومة. فمحاولة الأخيرة إظهار الحادث وكأنه “من طبيعة” عمل المناجم، وإعطاء أمثلة عن كوارث مماثلة في دول أوروبية بعضها من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أعطى صورة سلبية عن تعامل الحكومة مع الملف، وإن كان فيه بعض الحقيقة.
وفي كل الأحوال، لا يملك أحد الجزم بسبب الحادث ومن وما أدى إليه، إلا من خلال تحقيق سريع وعميق، تقدم له الحكومة كل التسهيلات المطلوبة، وتكون مستعدة فعلاً – كما أعلن اردوغان ووزير الطاقة مراراً – لمحاسبة وإقالة من شاب عمله الإهمال أو التقصير أو التعمد، إضافة إلى مراجعة وسائل الحماية والأمن وآليات الرقابة والتدقيق في المناجم بعد توقيع تركيا على اتفاقية المناجم الدولية التي ترفع من مستويات السلامة لعمال المناجم. وليس أقل من هذه الإجراءات لتبريد نار العائلات المنكوبة بأبنائها، ولحماية أرواح تعمل في مناجم أخرى، ولإدامة حالة الاستقرار السياسي والمجتمعي في تركيا، تلك التي تبدو مستهدفة منذ أشهر وأكثر من أي وقت مضى، وخاصة على أبواب الانتخابات الرئاسية في آب/أغسطس المقبل.