قمة بوتين وأردوغان: عودة الدفء للعلاقات وحلول محتملة
الجزيرة نت
6/9/2023
اتجهت جميع الأنظار للقمة التي جمعت الرئيسين بوتين وأردوغان في مدينة سوتشي الروسية يوم الاثنين الفائت، إذ كان الكثيرون ينتظرون مخرجات متعلقة بملفات على أهمية عالية في مقدمتها اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود الذي انسحبت منه روسيا في تموز/يوليو الفائت.
سقف التوقعات
لم يكن سقف التوقعات بخصوص القمة عالياً ابتداءً. فالموقف الروسي من اتفاق تصدير الحبوب واضح وصلب إلى حد كبير، والعلاقات التركية – الروسية لم تكن في أفضل حالاتها مؤخراً، بل يمكن وصفها في الأسابيع القليلة الأخيرة بالفتور الذي وصل حد التوتر وإن لم يتجاوز ذلك لمرحلة الأزمة.
نقل تركيا ملف انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى البرلمان لنقاشه، بعد موافقتها في آذار/مارس الفائت على انضمام فنلندا للحلف، وحديث أردوغان عن إمكانية مناقشة عضوية أوكرانيا نفسها فيه، فضلاً عن تسليمه ضباط كتبة آزوف لزيلينسكي، تسببت بمجملها بانزعاج موسكو وحرصها على توجيه رسالة عتب و/أو عضب لأنقرة.
تأجيل الزيارة التي كان يفترض أن يقوم بها بوتين لتركيا في آب/أغسطس الفائت ثم تحويلها لزيارة للرئيس التركي إلى سوتشي في الشهر الجاري كان أحد التعبيرات الروسية عن العتب/الغضب إزاء أنقرة. يضاف لذلك الانسحاب من اتفاق تصدير الحبوب والذي وإن كان موجهاً في الأصل ضد أوكرانيا والدول الأوروبية، إلا أن من زاوية ما كان رسالة لأنقرة كذلك التي لعبت دور الوسيط فيه وأقنعت موسكو سابقاً بالعودة له أكثر من مرة.
كما أن روسيا سبق واتهمت تركيا بانتهاك اتفاق تبادل الأسرى بعد تسليمها زيلينسكي ضباط آزوف خلال زيارته لها، ورأى البعض أن قصف بعض المصانع الأوكرانية التي تصدر لتركيا قطعاً تستخدم في الصناعات العسكرية لا يخلو من رسالة للأخيرة، وكذلك فُسِّرَ تفتيش روسيا للسفينة المتوجهة للموانئ الأوكرانية الشهر الفائت والتي وإن حملت علماً آخر إلا أنها مملوكة لشركة تركية.
ولذلك لم يكن السقف مرتفعاً أصلاً بخصوص مخرجات اللقاء الذي كان من المتوقع أن يناقش قضايا عديدة على رأسها مسألة عودة روسيا لاتفاق تصدير الحبوب. ذهب أردوغان لسوتشي وهو متمسك بأمل بلاده في عودة روسيا للاتفاق الذي يعدُّ “جسراً للسلام” في البحر الأسود أي أن أهميته لتركيا والمنطقة ليست محصورة بعوائده الاقتصادية وإنما كذلك كوسيلة لخفض التصعيد في حوض البحر الأسود، بينما تمسك بوتين بموقف بلاده المطالِب بضمانات حقيقية وليس مجرد وعود للعودة لاتفاق تصدير الحبوب.
ولذلك، وبالنظر لكل ما سبق، لم يكن متوقعاً أن يستطيع الرئيس التركي إقناع نظيره الروسي بعودة بلاده للاتفاق السابق بنصوصه السابقة وتطبيقاته المعروفة، وإنما كان الأرجح التوصل أو التمهيد لاتفاق معدّل أو مطوَّر أو مكمّل للسابق أو حتى اتفاق جديد مختلف كلياً.
عودة الدفء
في قراءة سريعة ولكن غير مخلّة لمخرجات القمة الروسية – التركية على المستوى الرئاسي، يمكن القول إن الملفات المدرجة على جدول أعمالها كانت كثيرة بطبيعة الحال، إلا أن أهمها على الإطلاق اثنان، أحدهما معلن والآخر ضمني. الأول المعلن هو ملف عودة روسيا لاتفاق تصدير الحبوب، والثاني الضمني هو العلاقات التركية – الروسية.
على مستوى العلاقات البينية، وبالنظر لتصريحات الرئيسين في المؤتمر الصحافي المشترك وقبله المؤتمر المشترك لوزيري خارجية البلدين قبل أيام، نرى بأن الدفء قد عاد للعلاقات بين الجانبين إلى حد كبير وإن لم تكن قد الخيرة قد عادت بالضرورة لما كانت عليه قبل أشهر بالضبط.
فاللغة التي سادت في مؤتمر فيدان – لافروف المشترك كانت إيجابية إلى حد كبير على صعيد العلاقات بين البلدين، وإن لم ترفع سقف التوقعات بخصوص الاتفاق، وتكرر الأمر مع مؤتمر بوتين – أردوغان. كما أن الحديث عن تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياحة وغيرها من الملفات المرتبطة بالعلاقات الثنائية كان حاضراً بقوة وبنبرة متفائلة تحيل على إرادة سياسية من البلدين للتطوير.
أكثر من ذلك، فقد حملت كلمة أردوغان المقتضبة في المؤتمر الصحافي وردوده على الأسئلة تأكيداً وتأييداً للسردية الروسية، فيما يتعلق بتحفظاتها على تطبيق اتفاق تصدير الحبوب بخصوص التوزيع والعقوبات الروسية، وكذلك بدعوته أوكرانيا “لتليين موقفها” واتخاذ خطوات بالتوازي مع الخطوات الروسية فيما يرتبط بتصدير الحبوب.
أما ما يتعلق باتفاق تصدير الحبوب، فلم يقتنع بوتين بالعودة له على حاله السابقة، وهو أمر كان متوقعاً كما أسلفنا، ولكن ذلك لا يعني استحالة التوصل لاتفاق ما بهذا الخصوص.
فقد تحدث الرئيس التركي عن مقترحات صاغتها بلاده مع الأمم المتحدة وسلمتها لروسيا تشمل حلولاً للتحفظات الروسية على تطبيق الاتفاق، كما تحدث الرئيس الروسي عن نموذج تتعاون فيه بلاده مع كل من تركيا وقطر لتصدير الحبوب كهبة لبعض الدول الإفريقية الفقيرة المحتاجة لها.
من الواضح أن بوتين أراد من النموذج المذكور رسالة للغرب الذي فاز بالجزء الأكبر من صادرات الحبوب فيما كان يفترض أن تحوزه الدول الأفقر، وتأكيداً على أريحية بلاده وامتلاكها بدائل عن الاتفاق القديم وعدم اضطرارها للعودة له، لكن الأهم من كل ما سبق أنه نموذج قابل للتكرار بتفاصيل تقنية مختلفة. ولئن لم يكشف أردوغان طبيعة المقترحات التي قدمها للطرف الروسي وتفاصيلها، إلا أنها – أي المقترحات – تسعى بالتأكيد لإعادة روسيا للتعاون في ملف تصدير الحبوب وإن كان بعنوان أو اسم مختلف ولكن بنفس الفلسفة أي المساهمة في التصدير وتقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا.
ولذلك، نقول إنه ما زال بالإمكان التوصل لتفاهم أو اتفاق ما مع روسيا؛ ليس بالضرورة قريباً جداً، لكن ما زالت أنقرة قادرة على لعب دور الوسيط في هذا الملف، ونقل الآراء بين كييف وموسكو اللتين زارهما وزير خارجيتها على التوالي في الأيام القليلة الماضية وسمع لمطالبهما وموقف كل منهما.
من جهة ثانية فقد تراجع حضور الملف السوري نسبياً في القمة، أو بشكل أدق في المؤتمر الصحافي للرئيسين. ساهم في ذلك انشغال روسيا في الحرب الأوكرانية، والتطورات الميدانية الأخيرة في سوريا، ومرور الانتخابات التركية، والفتور الذي ساد مؤخراً العلاقات بين أنقرة وموسكو وغيرها من العوامل. حتى نبرة فيدان وهو يتكلم عن النظام السوري تغيرت إلى حد كبير وكانت حازمة ومباشرة لدى الحديث عن “توقعاتنا من الحكومة السورية” التي لا تراجع عنها. ورغم ما سبق، فإن خطوات سياسية إضافية تجاه النظام السوري قد ترى النور في المدى المتوسط، لا سيما إذا استمر المسار الإيجابي للعلاقات بين روسيا وتركيا.
وبشكل مشابه، فقد تناول المؤتمر الصحفي لبوتين وأردوغان ملفات أخرى ذات اهتمام مشترك للبلدين ويمكن لهما التعاون فيها، وفي مقدمتها ليبيا وجنوب القوقاز وكذلك مكافحة المنظمات الإرهابية والانفصالية في الشمال السوري المتحالفة ميدانياً مع الولايات المتحدة.
في الخلاصة، وإن بدا بأن القمة التي جمعت الرئيسين بوتين وأردوغان في سوتشي لم تقدم مخرجات ملموسة في الملفات المدرجة على جدول أعمالها وفي مقدمتها تصدير الحبوب، إلا أنها ساهمت بشكل ملحوظ في إذابة الجليد بين الجانبين، وفتحت الباب على مسار إيجابي ممكن في العلاقات الثنائية مستقبلاً، فضلاً عن أنها مهدت الأرضية لإمكانية التوصل لاتفاق ما بخصوص تصدير الحبوب في المدى المنظور.