“قرن تركيا”: رؤية استراتيجية أم دعاية انتخابية؟
الجزيرة نت
في احتفالية حاشدة قبل أيام، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن رؤية حزبه العدالة والتنمية للمئة عام المقبلة تحت عنوان “قرن تركيا”، الأمر الذي نظرت له مختلف الأطراف من زوايا متباينة.
قرن تركيا
في احتفالية حاشدة، تحدث أردوغان على مدى ساعة ونصف عن رؤية “قرن تركيا” أو “مئوية تركيا” أمام الآلاف من أنصاره، وبحضور ممثلين عن أحزاب سياسية ومؤسسات مجتمع مدني ووسائل إعلام وممثليات أجنبية.
أتت الاحتفالية في الذكرى الـ 99 لتأسيس الجمهورية التركية أو ما يعرف بـ”عيد الجمهورية”، وتضمنت الإعلان عن إطلاق موقع الكتروني يحمل الاسم نفسه، والذي يحيل للقرن الثاني من عمر الجمهورية التركية. وهو ما عبر عنه الرئيس التركي بقوله “إن كانت المئوية الأولى هي مئوية الاستقلال، فلتكن المئوية الثانية هي مئوية المستقبل”.
وقد أجمل أردوغان الرؤية في 16 بنداً تعدُّ سِمات المئوية أو القرن الثاني وهي الاستدامة، الهدوء، التنمية، القيم، القوة، النجاح، السلام، العلم، صاحب الحق، الفاعلية، الاستقرار، المحبة، الاتصال، الرقمية، الإنتاج والمستقبل.
ويمكن القول إن هذه البنود الستة عشر أحالت على معاني قوة تركيا في القرن المقبل في مختلف القطاعات داخلياً وخارجياً، إضافة لسياقات فكرية وقيمية وأخلاقية. ويمكن جمع هذه البنود العامة في ثلاثة مسارات أساسية، أولها حاجة البلاد لدستور مدني يحل مكان دستور 1982 المعمول به والذي ما زال يحمل سمته “العسكري” (حيث كتبته القيادة العسكرية التي نفذه انقلاب 1928) رغم أنه خضع لـ19 تعديلاً منذ ذلك الوقت 10 منها في عهد العدالة والتنمية. ولذك فقد قال أردوغان إن أولوية بلاده في المئوية المقبلة ينبغي أن تكون صياغة دستور جديد.
والثاني هو مسار “تركيا الجديدة” أو “تركيا القوية” كفكرة حاضرة دائماً في خطاب حزب العدالة والتنمية، والتي تقابل عادة “تركيا القديمة” الضعيفة وغير الفاعلة والمنشغلة بأزمات عديدة داخلياً وخارجياً. ويضم هذا المسار بين جنباته كل عناصر القوة المادية من العلم والصناعة والصحة والسلاح وغير ذلك.
والثالث هو فكرة التفوق الأخلاقي، يحيث أحال الرئيس التركي كثيراً على موضوعات القيم والنجاح والسلام في تركيا والعالم والمحبة لكل فرد من الشعب التركي، وكذلك فكرة انتصار “صاحب الحق” وليس صاحب القوة في القرن المقبل.
أتى إعلان “مئوية تركيا” قبل عام واحد من الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية والتي ستأتي حكماً بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر إجراؤها في حزيران/يونيو المقبل، وبالتالي كان الربط بينها وبين هذه الانتخابات أمراً بديهياً. ولعله ليس من المبالغة القول إن الإعلان كان بمثابة إطلاق ضمني وغير رسمي لحملة الحزب للانتخابات المقبلة، التي طالما وصفت بالمصيرية والحاسمة، وربما اختير “قرن تركيا” شعاراً لها.
الإمكانات والفرص
ومن إشارات ارتباط الأمر بالانتخابات المقبلة أن الرئيس التركي أفرد جزءاً لا بأس به من كلمته المطولة للحديث عن إنجازات حزبه خلال العشرين سنة التي حكم فيها البلاد. وهنا تأتي فكرة القرن المقبل، وكأنه أراد تقديم رسالة ثقة بأنه متأكد من الفوز في الانتخابات المقبلة، وبالتالي فهو المنوط به أن ينفذ رؤية “قرن تركيا”. ومن جهة ثانية، كان ثمة حرص لدى الرئيس على رسالة ضمنية بأن حزبه هو الوحيد الذي يملك رؤية بعيدة المدى للبلاد، على عكس المعارضة التي يتهمها بالراهنية وعدم النظر أبعد من الأنف.
ومن المفارقات في الاحتفالية أنه دعي لها أحد عشر حزباً من الأحزاب السياسية المعروفة والتي شاركت بمستويات متباينة، واستثني من الدعوة ثلاثة أحزاب هي الشعوب الديمقراطي الذي يتهمه الحزب الحاكم بأنه الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني الذي يخضو حرباً انفصالية ضد تركيا، والحزبان اللذان خرجا من عباءته وهما المستقبل بقيادة أحمد داودأوغلو والديمقراطية والتقدم بقيادة علي باباجان، رغم أن الرؤية تتحدث عن المحبة والاحتواء والبعد عن الاستقطاب والحدّة والتوتر والتواصل مع الجميع بغض النظر عن الانتماءات.
ولئن انتقدت بعض أحزاب المعارضة الإعلان وقالت إنه تجميع لشعارات جوفاء بلا مردود عملي، وإن الهدف منه صرف النظر عن مشاكل البلاد الحقيقية، فقد ركزت وسائل الإعلام المقربة من الحزب الحاكم على فكرة أن القرن القادم هو قرن تركيا، وأنها ستكون خلاله من الدول الرائدة على مستوى العالم، لا سيما وأن أردوغان قال إن من أهداف تركيا خلال المئة عام المقبلة أن تكون ضمن الدول العشر الأولى على مستوى العالم سياسياً واقتصادياً وعلمياً وفي مختلف المجالات.
ما نميل له هو أن ما أعلن هو رؤية أقرب لمسار عام له سقف مرتفع وليس خطة واضحة المعالم بأهداف محددة قابلة للقياس والتقييم، حتى ولو جاء على لسان أردوغان فكرة الانضمام لنادي العشرة على مستوى العالم. ذلك أن العدالة والتنمية يميل عادة للرمزيات، وكان قد حدد سابقاً رؤية العام 2023 المرتبطة بمئوية الجمهورية ورؤية العام 2053 المرتبطة بذكرى فتح القسطنطينية ورؤية العام 2071 المرتبطة بذكرى معركة ملاذكرد التي وصل فيها الأتراك السلاجقة للأناضول. وفيما يتعلق برؤية 2023 على وجده التحديد، والتي اقترب موعدها كثيراً، نجد أن تركيا لم تصل لمصاف الاقتصادات العشر الأولى على مستوى العالم، بل ربما تراجع تصنيفها في السنوات الأخيرة، وإن كانت تقدمت في عدة مجالات أخرى.
وبالتالي ما يعنيه “قرن تركيا” أن الجمهورية التركية ينبغي أن تعمل في المئة عام القادمة في عدة مجالات لتطور من نفسها وترفع من مكانتها وتعظم الأدوار التي تلعبها في المنطقة والعالم، ولا يعني أن تركيا ستتسيد القرن المقبل كما قد يوحي المصطلح. فعندما تقول الخارجية التركية إن العام الفلاني هو “عام إفريقيا” على سبيل المثال، فهذا يعني أنه سيكون عام الاهتمام بالقارة السمراء والتركيز على تطوير العلاقات معها، وهو ما حصل سابقاً.
وقد حصل هذا الخلط بخصوص رؤية عام 2023 وانتشرت تفسيرات خاطئة تقول إن تركيا ستصبح من القوى العظمى عالمياً في العام 2023، رغم أنها لا تملك الكثير من مقومات القوى العظمى. فلا تملك تركيا، في الوقت الراهن والمستقبل المنظور، اقتصاداً عملاقاً ولا سلاحاً نووياً ولا القدرة على التأثير على السياسات الخارجية للدول الأخرى ولا نفوذاً بارزاً في المؤسسات الدولية وفي مقدمتها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن وغيرها من العوامل التي ترد في تصنيفات القوى العظمى لدى منظرّي العلاقات الدولية.
ليس من السهل الجزم بمآلات مئة عام قادمة، فهي حقبة زمنية طويلة جداً تحتمل الكثير من المتغيرات الجذرية كما حصل في القرون الأخيرة، لا سيما وأن السنوات الأخيرة شهدت تطورات كبيرة وذات تأثيرات ضخمة محتملة على صعيد النظام الدولي مثل جائحة كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية.
لكن المعطيات الحالية تقول إن ما أعلنه الرئيس أردوغان أقرب إلى أن يكون شعاراً انتخابياً له ولحزبه في الانتخابات المهمة المقبلة يفيده في الترميز والتحشيد من جهة ورؤية لمسار بلاده في العقود المقبلة من جهة ثانية. ولكن ذلك لا يعني أن تركيا ستصبح بالضرورة إحدى الدول العشر على مستوى العالم عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وغير ذلك، ليس طالما النظام الدولي القائم بقي صامداً أو تحول لنظام متعدد الأقطاب وفق السياقات المتوقعة حالياً.
ومن جهة ثالثة، أخيراً، فإن إشارة أردوغان لقرن تركيا تذكّر بمصطلح “الجمهورية الثانية” الذي حرص أنصاره على ترديده في السنوات السابقة، وإن كان حضوره لديهم تراجع مؤخراً بشكل ملحوظ بل ويكاد يكون اختفى. وهو المصطلح الذي يحيل إلى فكرة أن مصطفى كمال أتاتورك أسس الجمهورية عام 1923 على أسس معينة، بينما أردوغان – الذي كان السياسي الوحيد الذي حكم أطول منه – سيؤسس للجمهورية الثانية بدءاً من المئة سنة من عمر الجمهورية وفق أسس ومبادئ ومنطلقات مختلفة جزئياً وترتبط أكثر ما ترتبط بالهوية والأفكار والتوجهات.