قراءة أولية لانتقادات داود أوغلو للعدالة والتنمية
تصريحات أحمد داود أوغلو البارحة أثارت اهتماماً وجدلاً كبيرين، وهذا امر متوقع بالنظر لتوقيت الكلام وقائله ومضمونه وأسلوبه ورسائله الضمنية.
ورغم أن الأمر يتحتاج لمزيد من الوقت والتعمق لإصدار تقييم دقيق لما كتب، إلا أن التقييم الأولي قد يكون كافياً مبدئياً.
مبدئياً ينبغي تسجيل الملاحظات الأساسية التالية:
أولاً، كتب داود أوغلو بعنوان تقييم نتائج الانتخابات الأخيرة، لكنه قدم نقداً أعمق وأكبر وأطول زمنياً من الانتخابات الأخيرة. وهو يرى بأن نتيجة الانتخابات الأخيرة نتيجة لكثير من الأسباب والعوامل.
ثانياً، كتب داود أوغلو بصيغة “حزبنا” عن العدالة والتنمية، بمعنى أنه يتحدث عن ضرورة المراجعات الذاتية داخل الحزب، ولم يهاجمه من خارجه.
ثالثاً، كتب داود أوغلو بصفته “الرئيس الثاني للحزب” بعد اردوغان ورئيس حكومتين سابقتين، فضلاً عن ثقله النوعي كأكاديمي بارز ومنظر سياسي ووزير خارجية سابق…الخ. وقد كتب – كما دائماً – بلغة أكاديمية وسياسية عميقة وبسيطة وذكية في آن معاً.
رابعاً، ثمة لمسة “إعذار” في كلام داود أوغلو بإثباته مجمل التحديات التي واجهت تركيا خلال السنوات الأخيرة في الداخل والخارج، والتي لا يختلف في تقييمها ورفضها ومواجهتها عن حزبه، لكن يرى أن الوقت قد حان للخروج من ردات الفعل لبلورة سياسية مبادرة وذات رؤية.
خامساً، ليس في كلام داود أوغلو أي كلام “مباشر” عن نفض اليد من حزبه وتأسيس حزب جديد.
سادساً، ينظر داود أوغلو لحزب العدالة والتنمية على أنه حركة سياسية ذات جذور، تمثل “إرث الماضين وحلم القادمين” من أجيال المستقبل. ولذلك فهو امام مسؤولية تاريخية للحفاظ على نفسه وحضوره وتأثيره وقيادته لتركيا.
سابعاً، ذكر أنه كان قدم رأيه وموقفه ونقده في مرات سابقة للرئيس اردوغان شِفاهاً أو مكتوباً، لكن يشعر اليوم أنه أمام مسؤولية نقل رأيه أمام الرأي العام بوضوح وشفافية.
ثامناً، بطريقة مشابهة لكلامه في كتاب العمق الاستراتيجي، يرى الرجل بأن العالم يمر بمرحلة استثنائية وأن الدول/الأحزاب التي تتخطاها ببيت داخلي متماسك ستنجح وتتجاوز، بينما من سيغرق بالمشاكل الداخلية والاستقطاب والمعارك الهامشية سيخسر.
فيما يتعلق بالانتخابات البلدية الأخيرة، يرى داود أوغلو أنها استمرار لتراجع حضور الحزب خصوصاً في بعض المناطق الجغرافية مثل الساحل الغربي وحتى في وسط الأناضول، وأن خسارة بلديات مثل أنقرة وإسطنبول مؤشر مهم في هذا المضمار، وأن تحالف العدالة والتنمية فيها مع الحركة القومية أضره أكثر مما نفعه: أضره في مقابل التحالف الآخر، وأضره كذلك “داخل” التحالف حيث خسر بعض البلديات لصالح الحركة القومية.
نقد داود أوغلو ومطالباته بالمراجعات والتصويب كانت كثيرة ومكثفة وشاملة لكل شيء تقريباً، لكن يمكن إيجازها كبداية باختلاف حزب العدالة والتنمية اليوم عن بداياته: من حيث منظومة الأفكار والقيم، والخطاب، والممارسة …الخ.
من أهم ما انتقده الرجل ودعا إلى مراجعته وتصويبه مثلاً:
1) القيم التي أسس عليها الحزب، مثل الوفاء للقيادات والكوادر السابقة ذات الأيادي البيضاء للحزب. وقد أشار هنا بوضوح لبعض الممارسات الإعلامية التي تسعى لتشويه الكثيرين لدى اتخاذهم موقفاً أو رأياً مخالفاً.
2) الخطاب الذي نحا مؤخراً للمبالغات (وذكر نصاً فكرة “بقاء تركيا” والخطر الوجودي عليها) وكان حاداً جداً على الخصوم السياسيين وعمل على تهييج مشاعر الشعب لحصد المكاسب السياسية.
3) تحالف العدالة والتنمية مع الحركة القومية، والذي انتقده من الناحية المبدئية بسبب أفكاره وسياساته وكذلك من زاوية النتيجة كما أسلفت.
4) غياب العقل الجمعي وتراجع المؤسسية بشكل كبير في الحزب، إماً غياباً تاماً أحياناً أو بقائهما شكلياً وكمظاهر فقط في أحيان أخرى. ورأى داود أوغلو أن ذلك هو سبب “فتور حماس” كوادر الحزب و”تشكيلاته” في العمل في الانتخابات الأخيرة والتي سبقتها. وقد ذكر – ناقداً – كمثال موضوع استبدال رؤساء بلديات من الحزب وقيادات فروعه (الذين حسب تعبيره واجهوا الانقلاب بأجسادهم وأرواحهم) بسبب ما اعتبره “سبباً هلامياً أو غير محدد” هو مصطلح “التعب” أو “الصدأ” الذي رفعه اردوغان والحزب حينها.
5) تحكم تيار واحد في الحزب وضغطه على التيارات الأخرى بما فيها القيادات والمسؤولين المنتخبين إن كان من قبل الشعب أو داخل الأطر الحزبية.
6) ذكّر داود أوغلو بأنه كان له مآخذ على النظام الرئاسي الذي أفاد في زوايا كثيرة، لكن فيه ثغرات تحتاج للاستدراك، مثل الفصل الحقيقي بين السلطات (هو يرى بأن السلطة التنفيذية فيه متغولة على التشريعية والقضائية) ومنع بقاء رئيس الجمهورية على رأس حزبه (بعيداً عن اسم الرئيس الحالي اردوغان وفق تعبيره).
7) انتقد عدم شفافية بعض المناقصات المتعلقة بمشاريع معينة وعدم طرحها بوضوح على العامة، ما “ينشر انطباعاً” بوجود فساد، وقال إن الحزب يحتاج لأن يعود إلى شعار تأسيسه وهو “مكافحة الفقر والفساد والمحظورات”.
8) يرى بأن العقل الجمعي والديمقراطية والحريات والتنوع النابعة من الثقة بالنفس قد تركت مكانها للعقلية الأمنية الدولتية الدفاعية المرتكزة على ردات الفعل الآنية.
9) انتقد استعداء الخصوم السياسيين واللغة الحادة تجاههم، باعتبار أن ذلك ساهم في رفع حدة الاستقطاب في البلاد، واعتبر أن الهجوم على زعيم المعارضة قبل يومين في جنازة أحد شهداء الجيش التركي كان من ضمن أسبابه هذه اللغة وهذا الخطاب. الأهم أنه يرى أن هذا الخطاب الذي قد يأتي بمكاسب سياسية إلا أنه يهدد الهوية الجامعة للشعب التركي ويهدد الدولة على المدى البعيد بشكل كبير. ولعله قال نصاً إن مسألة بقاء تركيا ليست مرتبطة بنتجية انتخابات، وإنما الديمقراطية هي أحد أهم عوامل بقاء تركيا على المدى البعيد.
10) انتقد تراجع الحريات وخصوصاً الإعلامية، واعتبر أن هناك تضييقاً على أصحاب الآراء المخالفة إن كانوا سياسيين أو أكاديميين أو إعلاميين.
وهناك بالتأكيد الكثير من الأمور التي انتقدها الرجل، لكن هذه كانت أهمها ربما، لكنه مر على الملف الاقتصادي واستقلال القضاء وعمل مؤسسات المجتمع المدني وغيرها الكثير الكثير.
في الخلاصة:
أولاً، قدم أحمد داود أوغلو نقداً شاملاً لواقع العدالة والتنمية اليوم، بما في ذلك بعض القيم والأفكار والخطاب والممارسة والتحالفات، إضافة للنظام الرئاسي وعمل مؤسسات الدولة…الخ.
ثانياً، يرى داود أوغلو بأن “حزبنا” إن قام بمراجعة شاملة لكل ذلك فإنه قادر على كسب ثقة الناخبين مرة أخرى وعكس منحى التراجع المذكور، وأنه بذلك أمام مسؤولية تاريخية.
ثالثاً، يرى بأن إرث هذه “الحركة السياسية” ذات الجذور وهي “أمل القادمين” ليس مرتبطاً بشخص ولا حزب وتيار ولا حتى جيل.
رابعاً، ليس في كلام الرجل أي تصريحات مباشرة وواضحة حول فكرة الخروج من الحزب بل ما زال ملتزماً باستخدام كلمة “حزبنا”.
خامساً، أما ضمناً فنقد الرجل الشامل والواضح والصريح يحمل معنى “التحذير الأخير” و”الإعذار” أمام اردوغان والحزب والكوادر والأنصار والشعب، وبالتالي يبدو أن المطلوب هو إجراء هذه المراجعات التي ذكرها الرجل.
سادساً، تحضر هنا فكرة الحزب الجديد بقيادة عبد الله غل وعلي باباجان الذي يتردد أن إعلانه بات قريباً وأنه يستكمل التجهيزات المطلوبة لإشهاره. فهل سيكون أحمد داود أوغلو ضمن هذا الفريق؟ أعتقد أن الأخير أثبت وجهة نظره وتقييمه – الذي يتفق معه الكثيرون بالمناسبة وليس بالضرورة تقييماً شخصياً – بشكل علني، وبالتالي رمى الكرة في ملعب اردوغان الذي سيكون عليه التفاعل مع هذه الرسالة.
سابعاً، أرى أن كلام داود أوغلو أهم وأثقل وأكثر تأثيراً بكثير من تصريحات عبدالله غل، بالنظر لخلفية الرجل وما يمثله وبقائه حتى اللحظة داخل أطر الحزب وتجنبه الهجوم أو التجريح والطريقة “الوفية والذكية” التي خرج (أخرج) بها من الحزب. ولذلك سيكون على اردوغان فعلاً أن يقول و/أو يفعل شيئاً.
ثامناً، أعتقد أن داود أوغلو ما زال يراهن على الإصلاح الداخلي، وما زال يرغب بالعودة للعب دور من داخل الحزب، ولكن دور “فعلي” و”يليق” به ربما وليس أمراً شكلياً، وليس صعباً على أي باحث أو متابع جيد أن يفهم أنه يرى نفسه الخليفة الأنسب بعد اردوغان. ولا يجب نسيان الاختلافات الواضحة بين داود أوغلو وعبد االه غل في هذا الصدد. وبالتالي فإذا ما استطاع اردوغان إقناع داود أوغلو بالعودة للحزب (ضمن تغييرات كثيرة وحقيقية) فإن الرجل قد يبقى داخل حزبه، وهو قادر على إقناع الكثيرين بذلك. هذا نظرياً.
تاسعاً، لكن بالنظر للعدد الكبير من الانتقادات وشمولها تقريباً لكل مساحة خطاب وعمل للحزب، وبالنظر كذلك لشخصية اردوغان، وطريقة تعامله وتعامل الحزب مع “رسائل” الانتخابات السابقة في عدة مناسبات، يمكن القول إن إصلاحاً واسعاً وكبيراً وجذرياً لن يكون متوقعاً، ما يعني أن هذا التقييم سيكون التحذير الأخير الذي سيكون على داود أوغلو اتخاذ قرار ما بعده، وهو قرار تشكيل حزب جديد فعلاً ليمثل ما يطالب به الرجل هنا ومنذ فترة طويلة. هنا، ستكون فكرة انضمامه لمجموعة غل أو تأسيسه حزباً آخر مجرد تفصيل سيخضع للنقاش والتفاوض والتفاهم مع هذا التيار بعد اتخاذ قرار الخروج والعمل من خارج أطر العدالة والتنمية. طبعاً الحديث هنا عن مرحلة تأسيس الحزب وإعلانه، أما طريقة العمل وفرص النجاح فمتروكة لتقييم قادم في المستقبل.
وما زال الأمر يحتاج لمزيد من الدراسة والتعمق.