كما قبل كل انتخابات برلمانية، تشهد الساحة السياسية الحزبية اليوم في تركيا تغيرات وتحركات لافتة للنظر وهي تستعد للانتخابات البرلمانية المقبلة بعد ستة أشهر. فغالباً ما تشهد هذه الفترة تحالفات وانشقاقات وتأسيس أحزاب جديدة، لكن الأجواء المحيطة بالانتخابات المقبلة داخلياً (عملية السلام) وخارجياً (التحالف الدولي للحرب على “الإرهاب”)، إضافة إلى كونها الأولى التي يخوضها الحزب الحاكم بعد انتقال رئيسه اردوغان إلى قصر الرئاسة، كل ذلك يجعل من قراءة المشهد الحزبي وتأثيراته المحتملة على الانتخابات المقبلة ومستقبل الحياة السياسية في تركيا بعدها أمراً بالغ الأهمية.
أكثر الأحزاب التي شهدت تفاعلاً في الفترة الماضية – ما بعد الانتخابات الرئاسية – كان الشعب الجمهوري أقوى وأكبر أحزاب المعارضة، والذي نستطيع ملاحظة ثلاث تفاعلات مهمة في صفوفه تشير بمجموعها إلى معنى التشظي والضعف:
الأولى، زيادة الشرخ الداخلي والاعتراضات على الهزائم الانتخابية المتكررة والجنوح نحو اليمين المحافظ في محاولة للكسب من أصوات العدالة والتنمية، وقد تمخض ذلك عن عدة إقالات من الحزب إثر تصريحات معترضة، كما ظهر ذلك جلياً من خلال مطالبة طيف واسع داخل الحزب بهيئة عمومية طارئة وانتخابات مبكرة تزعمها نائب رئيس الكتلة البرلمانية للحزب محرم إينجة ونتج عنها تجديد الثقة بالرئيس الحالي كليتشدار أوغلو (740 صوتاً مقابل 415)، وهو ما أظهر أن الفئة المعارضة أقوى من أن يتم تجاهلها.
الثانية، استقالة الرجل القوي في الحزب مصطفى صاريغول، والذي كان الحزب قد أعاده إلى صفوفه لينافس على رئاسة بلدية اسطنبول الكبرى في الانتخابات البلدية الأخيرة كمرشح توافقي للمعارضة، وعودته “لحركة تغيير تركيا”.
الثالثة، استقالة إحدى رموز التيار “الوطني” أو الكمالي في الحزب أمينة أولكر تارهان وتأسيسها حزب “الأناضول”ً، الذي يتوقع أن ينضم إليها فيه عدد من نواب الشعب الجمهوري المحسوبين على هذا التيار وبعض اليساريين.
أما على جبهة التيار القومي، فيبدو أن كواليس أنقرة تشهد حراكاً نحو تحالف انتخابي بين أهم حزبين فيه، حزب الحركة القومية وحزب الاتحاد الكبير، في محاولة من الأول لتجنب المجازفة بعدم القدرة على تخطي “حاجز” الـ %10 (الباراج) المحددة لدخول البرلمان.
أما حزب الشعوب الديمقراطي، فرغم أنه حظي بحيز لافت من الاهتمام السياسي والإعلامي، باعتباره “الوسيط” في عملية السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، إلا أنه يعاني من متغيرين قد يؤثران على هذه المكانة وتهدد احتكاره لتمثيل أكراد تركيا سياسياً. الأول ظهور أحزاب كردية أخرى بعضها من خلفية إسلامية مثل حزب “الدعوة الحرة”، والثاني استياء الحكومة التركية من أدائه وتلميحها أكثر من مرة إلى أن عملية السلام ستشمل الطيف الكردي ككل، ولن تقتصر على حزب العمال الكردستاني وذراعه السياسي حزب الشعوب الديمقراطي.
بالنسبة للعدالة والتنمية، فرغم التماسك الواضح حتى الآن في صفه الداخلي، إلا أنه لا يمكن نفي وجود بعض التساؤلات وعلامات الاستفهام حول عدد من القضايا المهمة قبل الانتخابات:
أولاً، يبرز بقوة سؤال حظوظ الحزب في الانتخابات القادمة والتي ستكون الأولى التي يخوضها بدون رئاسة اردوغان وقيادته للحملة الانتخابية، وهو المشهور بقدراته الخطابية ومهارات التواصل الشعبية إضافة لتوحد جميع التيارات داخل الحزب خلف زعامته. ورغم أن استطلاعات الرأي تظهر ثباتاً حتى الآن في شعبيته، ورغم الأداء فوق الجيد الذي قدمه أحمد داود أوغلو حتى الآن، إلا أن سؤال العدالة والتنمية ما بعد اردوغان يبقى سؤالاً وجيهاً.
ثانياً، ما زال مصير عدد كبير من قيادات الصف الأول في الحزب غير محدد حتى الآن، وهم الذين تنطبق عليهم مادة “المدد الثلاث” في النظام الأساسي للحزب، وعليه فلن يتم ترشيحهم للانتخابات النيابية ولن يكونوا وزراء في الحكومة (حال فوز الحزب)، على رأسهم بولند أرينتش نائب رئيس الوزراء والناطق باسم الحكومة، وعلي باباجان مستشار رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية ومنظر النهضة الاقتصادية التركية وآخرون. وعليه فالتساؤل عن مستقبلهم بين استيعابهم (في الحزب أو مؤسسة الرئاسة) وجنوحهم لتشكيلٍ مستقل يبقى قائماً، رغم الأرجحية الكبيرة للاحتمال الأول.
ثالثاً، يبدو تأسيس نواب مستقلين مقربين من جماعة كولن لحزبين جديدين (حزب الشعب والعدالة وحزب التطور الديمقراطي) محاولة لخفض شعبية ونسبة تصويت الحزب الحاكم عبر منافسته على أصوات الطيف المحافظ من الناخبين، لكن لا يمكن التكهن حتى الآن بمدى اقتناع بعض النواب – خاصة نواب العدالة والتنمية – بهذه التجربة وانضمامهم لها.
رابعاً، كما أن المستقبل السياسي للرئيس السابق عبد الله غل ما زال طي الغموض والكتمان، بعد أن أعلن عن رغبته في العودة لصفوف العدالة والتنمية، وبعد أن تم “تجاوزه” بشكل واضح في الهيئة العمومية الطارئة التي انتخب فيها احمد داود أوغلو رئيساً له. وفي ظل “عدم الترحيب” غير المعلن بعودته لدوائر صنع القرار في الحزب الذي كان أحد مؤسسيه، يطرح استفهام حول وجهة وقرار غل، واحتمال تأسيسه حزباً جديداً أو انضمامه لآخر، ومدى تأثير ذلك على الحاضنة الشعبية للعدالة والتنمية.
وعلى هامش هذه التماوجات داخل الأحزاب المختلفة، تجري على تخومها تحركات أخرى، في مقدمتها نظر المحكمة الدستورية في مدى دستورية مادة “حاجز” الـ %10 لدخول الأحزاب للبرلمان، والذي كانت تستفيد منه الأحزاب القوية وفي مقدمتها الحزب الحاكم، وبما يمكن أن يتسبب به قرار مثل هذا – إن صدر – من معارك قانونية ودستورية من جهة وإضعاف لحظوظ العدالة والتنمية باستمراره في حكومة الحزب الواحد من جهة أخرى.
ورغم أن الانتخابات البرلمانية التركية غالباً ما تشهد حراكات مماثلة، إلا أن التطورات الداخلية والإقليمية تجعل من كل مناسبة انتخابية في تركيا محطة مهمة تتركز الأنظار على متغيراتها وتأثيراتها المحتملة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن التجارب السابقة تظهر أن كثيراً من هذه التحولات – خاصة الاحزاب الجديدة – غالباً ما تكون محدودة الأثر ومجرد زوبعة في فنجان، كما تظهر أن خمسة أو ستة أشهر مدة كافية جداً لنرى فيها تحولات أكثر عدداً وتأثيراً مما رأينا حتى الآن.