قراءة في البرنامج التوافقي للمعارضة التركية
الجزيرة نت، 9 شباط/فبراير 2023
أعلنت الطاولة السداسية المعارضة في تركيا عن برنامج سياسي توافقت عليه أحزابها الستة تحت مسمى “نص اتفاق السياسات المشتركة”، ما يقربها خطوة إضافية من الانتخابات المصيرية المقبلة ويضعها أمام استحقاق اختيار مرشحها للانتخابات الرئاسية وبلورة سياستها بخصوص الانتخابات البرلمانية.
البرنامج
أعلنت الأحزاب الستة المكونة للطاولة السداسية عن “نص اتفاق السياسات المشتركة” في احتفالية خاصة مستقلة عن اجتماعاتها الدورية. وجاء الإعلان تتويجاً لمسيرة طويلة من النقاشات والاجتماعات، وتحديداً في الثلاثين من كانون الثاني/يناير الفائت أي بعد الاجتماع الحادي عشر بأيام.
ويتكون نص البرنامج التوافقي الذي صيغ في كتيّب من 244 صفحة من مقدمة وتسعة عناوين رئيسة و75 عنواناً فرعياً، وشمل ما يقرب من 2300 مشروع يمكن تصنيفها ضمن الوعود الانتخابية للطاولة.
نصّت المقدمة على أن تركيا تمر بواحدة من كبرى الأزمات في الاقتصاد والحكم، وأن السبب في ذلك هو النظام الرئاسي المطبق في السنوات الأخيرة، وأن هذه الأزمة باتت مسألة بقاء أو حياة بالنسبة للدولة، واعدة بالانتقال لنظام برلماني معزز. وقالت المقدمة إن الاتفاق يتضمن أهدافاً وسياساتٍ ومشاريع تتعهد بها الطاولة السداسية، وتُعَدُّ بمثابة العمود الفقاري للبرنامج الانتخابي للمرشح الرئاسي ثم لسياسات الحكومة بعد الانتخابات (في حال فوز مرشح المعارضة).
أما البنود التسعة الرئيسة فتوزعت على مجالات القانون العدل والقضاء، الإدارة الحكومية، مكافحة الفساد والشفافية والرقابة، الاقتصاد والمال والتوظيف، العلم والبحث والتطوير والتجديد والابتكار والتطور الرقمي، السياسات القطاعية، التعليم، السياسات الاجتماعية، وأخيراً السياسة الخارجية والدفاع والأمن وسياسات الهجرة.
ومن الوعود أو التعهدات الرئيسة التي وردت في النَّص، بناء على فكرة العودة بالبلاد للنظام البرلماني، تحديد مدة حكم رئيس الجمهورية بسبع سنوات لفترة واحد فقط، وعودة الرئيس لقصر “جانكايا” القديم بدلاً عن الكلية الرئاسية الحالية، وتخفيض العتبة الانتخابية إلى %3،
وتخصيص دعم من الميزانية للأحزاب التي تحصل فوق %1 من الأصوات في الانتخابات، واختصاص البرلمان بطلب قضايا حظر الأحزاب السياسية، وإلغاء نظام الوصاية على البلديات.
ومنها كذلك تشكيل هيئة تحقيق في الفساد تحت قبة البرلمان، وإلغاء الصندوق السيادي التابع لرئاسة الجمهورية، وسن قانون للأخلاق السياسية، وتخفيض عدد الطائرات الرئاسية وبيع الفائض منها لشراء طائرات إطفاء الحرائق، وفتح القصور الرئاسية أمام العامة.
وفي المجال الاقتصادي والمالي، تعهد الاتفاق على لسان الأحزاب الستة بخفض نسبة التضخم إلى ما دون %10 خلال سنتين، ومضاعفة متوسط دخل الفرد، وإلغاء نظام حماية المودعات بالليرة التركية الذي وضعته الحكومة مؤخراً.
ومن وعود الفقرات اللاحقة كذلك إلغاء هيئة التعليم العالي، وتغيير نظام المراحل المدرسية الحالي، وإعادة التفاوض حول اتفاقيات استيراد الغاز مرتفعة الثمن، وإعادة النظر في مشروع محطة أك كويو للطاقة النووية، وإلغاء مشروع قناة إسطنبول، وإعادة تشغيل مطار أتاتورك في إسطنبول، والعودة “لكافة الاتفاقات الدولية”.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، تعهد الاتفاق بالحوار مع الدول المعنية بملف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، وإيجاد حل “للمشاكل بين إسرائيل وفلسطين”، ومنع الهجرة غير المنتظمة لتركيا، وإعادة السوريين لبلادهم في أقصر وقت ممكن.
قراءة
في قراءة البرنامج ودلالاته يمكن طرح الملحوظات الرئيسة التالية:
أولاً، بالنظر للخلفيات والأفكار والبرامج المتباينة للأحزاب المشاركة في الطاولة السداسية، كان النص أقرب للقاسم المشترك الأصغر بين هذه الأحزاب، فسطّر في الأغلب الملفات التي عليها توافق ولو بالحد الأدنى وغابت عنه الملفات الخلافية بطبيعة الحال.
ثانياً، تحدث النص عن الكثير من المشاريع والوعود والتعهدات، لكنه لم يذكر كيف سيكون تنفيذها إلا ما ندر، ما أبقى الكثير مما أورده في إطار العموميات والكلام العام الذي يحمل عدة أوجه ويمكن فهمه بأكثر من طريقة.
ثالثاً، غابت عن النص قضايا وملفات هامة جداً وحساسة بالنسبة لشرائح واسعة من الشعب التركي، مثل المسألة الكردية ومشاكل العلويين ومكافحة الإرهاب في بعض عناوينه على أقل تقدير.
رابعاً، حمل النص نفَساً يقطع مع الماضي ويعمل على إنشاء ” تركيا جديدة” مع مئوية الجمهورية وبعد 20 عاماً من حكم العدالة والتنمية أكثر مما أوحى بالبناء على منجزات الماضي، بل وتضمن وعوداً بإلغاء مشاريع وعد أو بدأ بها العدالة والتنمية، وهو ما عدَّه محسوبون على الحزب الحاكم والحكومة “برنامج هدم لا بناء” للبلاد. ومن الأمثلة على ذلك وعود بغلق المدن الطبية الكبيرة وإلغاء مشروع قناة إسطنبول وإعادة قيادات القوات في الجيش لتتبع رئاسة الأركان وعودة الرئيس لقصر “جانكايا” السابق وليس الكلية الرئاسية الحالية والتلميح بالعودة لاتفاقية إسطنبول (بخصوص حماية المرأة) التي خرجت منها تركيا حديثاً.
خامساً، ركز النص بشكل واضح على معنى مكافحة الإسراف والفساد في معنى ضمني يتهم الحكومات المتتالية للعدالة والتنمية بهما. ومن أمثلة ذلك فكرة نقل مقر إقامة الرئيس وبيع الطائرات الرئاسية “الفائضة عن الحاجة” وفتح القصور أمام زيارات عامة الشعب ومقترح سن قانون الأخلاق السياسية وإلغاء الصندوق السيادي التابع لرئاسة الجمهورية.
سادساً، يركز البرنامج الحكومي على المجال الاقتصادي ولا سيما ما يؤثر في حياة المواطنين اليومية، وقد كانت تلك الوعود الأكثر تحديداً بأهداف وأرقام معينة. ويشي البرنامج بانتهاج سياسة اقتصادية نيوليبرالية بأقل تدخل ممكن من الدولة، بما في ذلك استقلالية المصرف المركزي وترك السوق لتحديد سعر صرف الليرة وغير ذلك.
سابعاً، بدا النص موجهاً أكثر لأنصار الأحزاب الستة المعارضة مشتملاً على ملامح من برامجها الذاتية ومقترحاتها ومشاريعها التي وعدت بها، وابتعد في المقابل عن القضايا الشائكة و/أو الخلافية. ولذلك فمدى قدرته على إقناع شرائح أخرى، لا سيما من أنصار التحالف الحاكم، يبقى أمراً غير واضح أو مؤكد.
في الخلاصة، قدمت الطاولة السداسية نصاً مشتركاً فيه توافق على الحد الأدنى من السياسات التي يفترض أن تتبناها الحكومة المقبلة في حال فاز مرشحها بالانتخابات الرئاسية. لكن الإعلان عن البرنامج لم يرافقه اهتمام كبير أو حماسة لافتة في الشارع التركي، وذلك لعدة أسباب في مقدمتها ضعف اهتمام الناس بالبرامج الانتخابية وقلة التأثر بها عادة.
ولذا سيكون على الطاولة السداسية الإعلان في أقرب وقت عن مرشحها للانتخابات الرئاسية والذي يفترض أن يبني حملته الانتخابية على النص المعلن ووعوده. ولعل إمكانية تأجيل موعد الانتخابات بعد الزلزال الكبير الذي ضرب البلاد سيعطيها فسحة زمانية إضافية لترتيب أوراقها، أما مدى تأثير البرنامج في الناخبين فما زال يحتاج وقتاً إضافياً لإمكانية تقييمه بشكل