قراءة في الاتفاق التركي – الروسي حول شرق الفرات
TRT عربي
في توقيت لا تخفى دلالته متزامنٍ مع انتهاء مهلة تعليق عملية نبع السلام شمال شرق سوريا وفق التفاهمات مع واشنطن، زار الرئيس التركي سوتشي مجتمعاً مع نظيره الروسي ليخرجا باتفاق وصفه الأول بالتاريخي بخصوص مستقبل شرق الفرات عموماً والعملية التركية على وجه الخصوص.
ثلاثة مؤشرات أكدت صعوبة المفاوضات بين الطرفين، أولها تصريحات سبقت القمة على لسان كل من وزير الدفاع الروسي والناطق باسم الكرملين وكانت في مجملها سلبية من العملية التركية، وثانيها المدة الزمنية الطويلة التي استغرقتها المباحثات فعلها من أطول القمم التي جمعت الزعيمين، وأخيراً تأخر الإعلان عن الاتفاق الثنائي بعد انتهاء القمة للتوافق على صياغة البيان فيما يبدو.
خرج الاتفاق في 10 بنود أكدت في معظمها على التعاون الطرفين والتزامهما بوحدة الأراضي السورية والحل السياسي للأزمة، بينما دارت فكرتها الرئيسة حول مصير مسلحي وحدات حماية الشعب YPG في الشمال السوري.
الملحوظة الأولى بخصوص الاتفاق أنه أقر التفاهمات التركية – الأمريكية التي أبرمت قبل 5 أيام وبنى عليها، بل يمكن اعتباره اتفاقاً متمماً لها. فقد ثبَّت البند الثالث من الاتفاق “الوضع القائم في منطقة عملية نبع السلام ما بين تل أبيض ورأس العين وبعمق 32 كلم”، بينما تحدثت البنود الأخرى، وخاصة الخامس، عن المناطق الأخرى خارج مسرح العملية. فوفق الاتفاق، ستنتشر الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري على طول الحدود السورية – التركية خارج منطقة نبع السلام بعمق 30 كلم، كما ستسيّر أنقرة وموسكو دوريات مشتركة على طرفي منطقة العملية في الشرق والغرب بعمق 10 كلم.
وبهذا المعنى يكون الاتفاق الجديد إضافة جديدة – بعد التفاهمات مع واشنطن – لمشروعية العملية التركية وتثبيت مكتسبات أنقرة من خلالها، ويحقق لها أهمَّ ما كانت تستهدفه من نبع السلام وهو إبعاد عناصر وحدات الحماية YPG لأبعد من 30 كلم من حدودها، وبما يعني تقويض إمكاناتها للتحول إلى كيان سياسي انفصالي في الشمال السوري.
الملحوظة الثالثة تتعلق بالإشارة لاتفاقية أضنة الموقعة بين تركيا وسوريا عام 1998 حيث يؤكد الطرفان في البند الرابع على أهميتها وعلى أن “تسهّل روسيا الاتحادية تطبيقها”. يمثل هذا البند مصلحة للطرفين، لتركيا التي تتيح لها الاتفاقية ملاحقة العناصر الإرهابية التي تهدد حدودها وأمنها داخل الأراضي السورية بما يشكل شبكة أمان سياسية لعمليتها، ولروسيا التي ترغب من خلال تفعيل الاتفاقية فتح باب الحوار الرسمي والتعاون المشترك بين أنقرة ودمشق. ورغم أن الأولى أعلنت مراراً أنها ما زالت غير راغبة في علاقات رسمية ومباشرة مع النظام السوري في المرحلة الحالية وتكتفي بتواصل بمستوى متدنٍ وإيصال الرسائل من خلال موسكو، تأمل الأخيرة في أن تسهّل التطورات الميدانية الأخيرة وتواجد قوات النظام على الحدود التركية تلك الإمكانية وأن ترفع من مستوى التواصل بين الطرفين على المدى المتوسط أو البعيد.
الملحوظة الرابعة تتعلق بالهدف الرئيس الثاني للعملية التركية، أي إعادة اللاجئين السوريين، حيث ينص البند الثامن على “تعاون الطرفين لتسهيل عودة آمنة وطوعية للاجئين”. لكن ذلك يبقى هدفاً بعيداً ودونه تحديات كثيرة، لا سيما بالنسبة للرقم المعلن تركياً أي عودة مليون إلى مليوني لاجئ.
فالاتفاق لا ينص على إنشاء منطقة آمنة وإنما يحيل دائماً إلى “منطقة عملية نبع السلام”، كما أن تواجد القوات الروسية وحرس الحدود التابع للنظام سيخفف من حماسة الكثيرين للعودة إلى تلك المناطق التي ستكون بالنسبة لهم غير آمنة، فضلاً عما يحتاجه مشروع إعادة اللاجئين من متطلبات عسكرية وسياسية ولوجستية ينبغي أن توفرها المجموعة الدولية ما قد يستغرق سنوات.
الملحوظة الخامسة هي أن أنقرة قد تخلت ضمنياً عن فكرة دخول منبج في مقابل تعهد روسيا بإخراج عناصر وحدات الحماية مع أسلحتهم منها ومن تل رفعت، بعد أن ماطلت بذلك طويلاً منذ عملية غصن الزيتون العام الفائت.
أما الملحوظة السادسة والأخيرة فهي أن الاتفاق التركي – الروسي مضافاً للتفاهمات التركية – الأمريكية قبل أيام يكاد يكون إعلان خاتمة عملية نبع السلام، من حيث أنه أوكل مهمة إبعاد عناصر وحدات الحماية نحو عمق الأراضي السورية لروسيا. أي أن العملية التركية ستكتفي حالياً بالمرحلة الأولى المعلنة والتي تسيطر عليها القوات التركية بالتعاون مع المعارضة السورية بين تل أبيض ورأس العين، وهو ما أشار له بيان وزارة الدفاع التركية بعد توقيع الاتفاق.
في المقابل، ورغم الدلالات الواضحة للاتفاق، تمْثُل أمامه بعض التحديات المهمة، في مقدمتها مدى التزام الطرف الروسي بتنفيذ ما يقع على عاتقه منه، فالاتفاقات تقيَّم بما يتحقق منها على الأرض وليس بما يسطر منها على الورق فقط.
كما أنه ما زال من غير الواضح كيف سترد الولايات المتحدة الأمريكية على الاتفاق سياسياً وميدانياً، وخصوصاً ما يتعلق باستكمال انسحابها من المنطقة ومدى دعمها لوحدات الحماية في المرحلة المقبلة، وإن كان الراجح ألا تقف حجر عثرة أمام الاتفاق الذي مهدت له من خلال التفاهمات مع أنقرة.
أخيراً، تبقى دائماً هناك احتمالات للتصعيد الميداني، إما عبر وحدات الحماية التي قد ترغب بتفجير الأوضاع أو من قبل القوات التركية إن حصلت أي متغيرات ميدانية تخل بالاتفاق أو تعيق تحقيق أهدافه أو كان تقييمها أن انسحاب الوحدات والتزامها غير كاملَيْن، وهو ما ألمح له الرئيس التركي في رحلة عودته من سوتشي.
وفق هذا التقييم، يمكن القول إن كلاً من روسيا وتركيا قد حققا مكاسب واضحة من الاتفاق، وأن النظام السوري استفاد إلى حد كبير من عملية نبع السلام في مآلاتها حيث جمعته المصلحة المشتركة مع أنقرة بتحجيم وحدات الحماية وتقويض سيطرتها في مناطق شرق الفرات. وإلى جانب تهميش النظام والمعارضة إلى حد كبير في الاتفاق، بـِعَدِّهِ اتفاقاً بين الطرفين الإقليميين الضامنين، فإن أكبر الخاسرين منه هي وحدات الحماية التي راهنت كثيراً على الدعم الخارجي قبل أن تتعرض لخذلان أمريكي أولاً ثم لضمانات روسية لتركيا بإبعادها عن حدودها.