في مواجهة التشويه.. من اتخذ قرار معركة طوفان الأقصى؟
في سياق العدوان الحالي على قطاع غزة، ثمة قضايا يُتجنب نقاشها أو الرد عليها، ولا سيما من قيادات حماس والمقاومة الفلسطينية، إما انشغالاً بما يتعلق بالحرب، أو تجنباً لسوء الفهم والدخول في جدل عقيم قد يكون له انعكاسات سلبية لا تملك المقاومة رفاهيتها حالياً. من هذه القضايا جدل من اتخذ قرار عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والذي تصر أطراف محددة على حصرها في رئيس حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار لأسباب سيأتي تبيانها وتفصيلها.
حرب المشروعية
تعدُّ السردية ركناً رئيسياً من أركان الحرب بل إحدى أهم جبهاتها، وليس من باب المبالغة أنها كانت في الحرب الحالية على غزة مساراً موازياً للمواجهة الميدانية واستمدت منطلقها وقوتها من الأخيرة؛ إذ لا حرب – فضلاً عن الانتصار – بدون مشروعية، وقد ظل استهداف مشروعية المقاومة والمواجهة لعقود أحد أهم أهداف الاحتلال وداعميه، وما زال مستمراً في الحرب الحالية، خصوصاً بعدما ازداد التعاطف الدولي والتفاعل التضامني مع القضية الفلسطينية.
في السنوات القليلة الأخيرة لم يبق هذا الجهد حكراً على الاحتلال الإسرائيلي، بل ساهمت فيه بشكل فاعل ومركز ومقصود أطراف عربية وفلسطينية لأسباب عديدة. وكانت إحدى وسائل التشويه وإضعاف المشروعية ربط المقاومة الفلسطينية وخصوصاً حركة حماس بأجندات خارجية وخصوصاً إيران، ليس في إطار قبول الدعم والتعاون في مواجهة الاحتلال كما هو حاصل، وإنما بتصويرها ترساً في آلة إيران وسياساتها الإقليمية كـ “وكيل” ينفذ تعليماتها.
لذلك كان من اللافت ربط بعض موجات التصعيد بين الاحتلال وحركة الجهاد الإسلامي في غزة خلال السنتين الفائتتين بما عُدَّ مصالح إيرانية، واتُهِمت حركة الجهاد بتنفيذ أجندة إيرانية أكثر من مرة، رغم أن الاحتلال هو من بدأ الاستهداف والعدوان وكانت الجهاد في مقام الرد لا أكثر. وقد رددت في بدايات الحرب الحالية ادعاءات بأن “طوفان الأقصى” أتت وفق توقيت طهران ولخدمة أهدافها ومصالحها وعلى عكس مصالح الفلسطينيين، رغم العديد من القرائن والتصريحات والوقائع التي تثبت أنها كانت عملية فلسطينية خالصة من حيث التفكير والتخطيط والتوقيت والتنفيذ. وهي سردية تراجعت مدة من الزمن قبل أن تعود لزخمها السابق على ألسنة وأقلام عربية وفلسطينية.
تقليدياً، كانت محاولات تشويه حماس من قبل أطراف فلسطينية وعربية تركز على قياداتها المقيمة خارج فلسطين من قبيل عبارات “سكان القصور والفنادق”، ولكن الحرب الحالية غيرت هذه الاستراتيجية لسردية أخرى تتعلق بحماس غزة (التي لا ينطبق عليها ما سبق) وهي سردية “الأجندة الإيرانية”. وقد كان للسنوار نصيب الأسد من الهجوم والافتراء ومحاولات التشويه المستمرة حتى اللحظة، كمنطلق للتشكيك بالحركة ككل. وفي قلب هذه الاستراتيجية القديمة المستجدة ادعاء أن “أبا إبراهيم” كان وحده صاحب قرار السابع من أكتوبر، وأنه فعل ذلك لأجندات خارجية لا لأسباب وطنية.
قرار من؟
لا شك أن انتخاب السنوار لقيادة حماس في غزة في 2017 تزامن مع تغير ملموس في خطاب الحركة المقاومة وبعض مساراتها وملف علاقاتها الإقليمية، ولا سيما ما يتعلق بعلاقاتها مع “محور المقاومة“، حيث كان قرار ترميم العلاقات مع إيران قد اتخذ قبل ذلك بقليل، كما أن الرجل عرف بتصريحاته التي تشيد بطهران ودعمها للمقاومة والتي حمل بعضها مبالغات في الصياغة.
بيد أن العودة للوقائع تقول بما لا يترك مكاناً للشك بأن عملية خطف الجندي “جلعاد شاليط” في 2006 وحرب 2008 (معركة الفرقان) حصلتا قبل خروجه من الأسر بعملية “الوفاء للأسرى، وأن حربَيْ عام 2012 (حجارة السجيل) وعام 2014 (العصف المأكول) جرتا قبل توليه رئاسة حماس في غزة.
كما أنه لا يخفى على أي متابع للشأن الفلسطيني ثقل كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس في القرارات المتعلقة بالمسارات الاستراتيجية للحركة ولا سيما المعارك والحروب وموجات التصعيد مع الاحتلال، من باب أن حماس حركة مقاومة مسلحة في نهاية المطاف، وكون القسام هي المنوطة بالمواجهة العسكرية ومعقلها غزة، فضلاً عن رمزية القائد العام للكتائب محمد الضيف وحضوره في المشاهد الكبرى مثل “سيف القدس” و”طوفان الأقصى”.
وأخيراً، لا شك أن القرارات الكبرى المتعلقة بالمسارات الاستراتيجية يجري التوافق عليها في المكتب السياسي للحركة، جسمها التنفيذي الأكبر، وإن بالخطوط العريضة، وتترك التفاصيل الفنية لأهل الاختصاص، وهم هنا قيادة الكتائب في المقام الأول.
وبالتالي، في الخلاصة، فقرار عملية “طوفان الأقصى” قرار جماعي لا يرتبط بشخص واحد (ولا يمكن ذلك عقلاً ولا واقعاً)، وتوقيتها يطلع عليه عدد أقل من القيادات، وتنفيذها الميداني منوط بكتائب القسام. وهذا لا ينفي أن يحيى السنوار ركن رئيسي في آلية اتخاذ القرار هذه من عدة زوايا في مقدمتها أنه رئيس الحركة في القطاع وبالتالي المسؤوليات الملقاة على عاتقه في حرب كهذه، وخلفيته الأمنية – العسكرية، وتوجهاته العامة، وعلاقته المميزة بقيادة القسام.
لماذا السنوار؟
إذن فالسنوار ليس صاحب القرار الأول ولا الوحيد فيما يتعلق بالحرب الحالية، وهو ما يدركه كل متابع جيد أو باحث منصف، وليس فيما قدِّمَ آنفاً من سياقات وقرائن ما هو جديد أو مستحدث. فلماذا كان التركيز على السنوار وادعاء انفراده بقرار الحرب؟
لا بدّ أولاً من إشارتين مهمتين؛ الأولى أن من سعوا لحصر قرار الحرب بالسنوار كان هدفهم تحميله (ومعه حماس) مسؤولية الدماء والدمار والحصار والتجويع والإبادة الحاصلة، وقد وردت تصريحات وتلميحات عديدة بهذا الصدد كادت أن تنفي المسؤولية عن الاحتلال نفسه.
والثانية أن بعض أسباب ذلك تجتمع فيها أطراف فلسطينية وعربية مع الاحتلال (وتلك مصيبة) وبعضها الآخر يختص بها العرب والفلسطينيون المعنيّون دون الاحتلال (وتلك مصيبة أكبر).
في العموم، يمكن رصد ثلاثة أسباب رئيسية خلف حصر قرار المعركة بالسنوار:
الأول، استسهال تشويه الرجل. فقد استغل هؤلاء التزامن بين قيادة الرجل لحماس في غزة والتقارب مع إيران (ثم استعادة العلاقة مع النظام السوري) للصق تهمة التبعية لإيران به، إضافة لخطابه الإعلامي الذي واجه بعض النقد، فضلاً عن مدة أسره الطويلة التي حاولوا الإيهام بأنها مانع للعمل القيادي والتفكير السوي واتخاذ القرارات الحساسة.
الثاني، وضع هدف أسهل نسبياً. يبحث الاحتلال عن أهداف كبيرة لتقديمها كإنجاز وصورة نصر في العدوان الحالي وفي مقدمتها اغتيال القيادات السياسية والميدانية، ولا شك أن إمكانية استهداف السنوار – من وجهة نظر الاحتلال – أسهل مقارنة بالضيف المطارد منذ عقود والذي يملك أسلوب حياة مختلف في العموم عن القيادات السياسية.
الثالث، تجنب الإضرار برمزية القسام. يدرك بعض الفلسطينيين والعرب أن محاولة التهجم على كتائب القسام والضيف ستكون لها ردات فعل سلبية وقاسية عليهم ولن تحظى بمصداقية أو إمكانية كبيرة للتداول، بينما قد لا يكون الأمر بنفس المستوى في مواجهة تشويه قيادات سياسية مثل السنوار، أو هنية ومشعل وغيرهم.
وهكذا، سعت شخصيات وحسابات ومؤسسات وتيارات صهيونية وأخرى محسوبة على الفلسطينيين والعرب لتشويه الرجل ومحاولة إلصاق كل أنواع السلبيات والأخطاء به، فصوروه بأنه شخص متهور موتور طائش غامر بحياة الغزيين ومستقبل القضية الفلسطينية بقرار منفرد غير محسوب بسبب “لوثة المقاومة” أو لحساب إيران ومصالحها، بل وصل البعض لاتهامه بتنفيذ أجندة صهيونية. لكن ماذا كانت النتيجة؟ زاد كل ذلك في رصيده السابق وسمعته الطيبة داخل حركته ومع الفصائل الأخرى وبين أبناء شعبه، وباتت تُنسب له دون غيره مزايا المعركة وأسلوب إدارة المفاوضات والمحاولات الحثيثة لاستئناف العمل الإداري والإغاثي والصحي في القطاع كلما أمكن ذلك رغم رصد الاحتلال كل ذلك واستهدافه.
ما زالت الحرب دائرة، وما زال الكثير مما يتعلق بها ضمن المسكوت عنه لأسباب عديدة ذات وجاهة، مما قد يتبدى ويُعلن لاحقاً بعد انتهاء الحرب وتضميد جراح الناس. لكن الأجندات الإعلامية والسياسية لبعض العرب والفلسطينيين المتماهية إلى حد كبير مع سردية الاحتلال وأهدافه لافتة جداً وخطيرة أكثر ومما لا يحتمل السكوت عنه حتى لاحقاً، ويحتاج للإشارة له ونقاشه وتفنيده، وهذا المقال جزء من الجهد المطلوب في هذا الإطار.