في تفسير الغضب التركي على البارزاني
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
تشهد المنطقة مؤخراً حالة غير مسبوقة من السيولة وتسارع الأحداث بما انعكس على سرعات ملحوظة في تغيير المواقف وتبديل التحالفات والاصطفافات، سيما ما يتعلق بتركيا. فقبل عامين، كانت أنقرة وموسكو على شفير الحرب، لكنهما اليوم تخطان مساراً من التعاون والتنسيق في سوريا إضافة لشراء الأولى من الثانية منظومة S400 التي أغضبت حلفاءها الغربيين. أيضاً، عام 2015، هاجم الخطاب الرسمي التركي “السياسات التوسعية الإيرانية على أسس مذهبية وعرقية” ورد عليه رئيس الأركان الإيراني بالتهديد بجعل “سوريا مقبرة للأتراك”، بينما سجل الطرفان تقارباً ملحوظاً مؤخراً على هامش الأزمة الخليجية واستفتاء كردستان العراق.
بيد أن هناك ما هو أكثر لفتاً للأنظار وإثارة للاستغراب، وهو العلاقة بين أنقرة وأربيل التي تبدلت 180 درجة خلال أشهر قليلة فقط. فقبيل معركة الموصل كان البارزاني أقرب لتركيا من حكومة بغداد المركزية التي اعتبرت تركيا “قوة احتلال”، أما اليوم فيجري الطرفان مناورات عسكرية على الحدود هدفها الأول الضغط على الخصم المشترك: البارزاني.
على مدى السنوات السابقة كانت العلاقات الطيبة التي تجمع أنقرة بأربيل مثار استغراب بالمقارنة مع العلاقات المتوترة مع حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال سوريا، مع العلم أن كليهما يسعى تقريباً لنفس الهدف، والسبب هو حالة التنافس/الخلاف بين البارزاني وحزب العمال الكردستاني بينما يعتبر الاتحاد الديمقراطي الفرع السوري للحزب، إضافة طبعاً للعلاقات الاقتصادية الجيدة بين الطرفين.
أما اليوم، ومنذ ما قبل الاستفتاء، تبدلت اللهجة التركية إزاء البرازاني وعلا سقف تصريحات أنقرة ضد الإقليم وصولاً للتهديد بالتدخل العسكري وقطع العلاقات الاقتصادية وإغلاق المعبر الحدودي، فكيف يمكن تفسير هذا التغيير الجذري؟
ثمة رؤية ناظمة للموقف التركي بمختلف جزئياته يتعلق بغائية هذا الاستفتاء ومسار الانفصال واعتباره حدثاً إقليمياً – لا عراقياً محلياً وحسب – له امتداداته في تركيا وباقي دول المنطقة التي يسكنها الأكراد، خصوصاً بالتزامن مع التطورات الماثلة في المشهد الكردي السوري. ليست تلك محض نظرية مؤامرة، ولا اتكاءً على التاريخ البحت، ولا استشهاداً بأحلام الأكراد القومية منذ عشرات السنوات فقط، ولكن لها شواهد كثيرة في السياق الحالي لعل من أبرزها دلالة نشرة أخبار الطقس على قناة “روداو” التابعة للإقليم والتي تظهر بعض المحافظات التركية ضمن حدود “كردستان” وهو ما أثار انتقادات حادة في تركيا (رغم أنه ليس تطوراً طارئاً)، قبل حظر القناة من قمر تركسات قبل أيام. لذلك، وللتداعيات السلبية المحتملة على الملف الكردي الداخلي، تبدو تركيا حازمة جداً وحادة للغاية في رفض الاستفتاء.
التفسير الثاني أن وتيرة التصريحات والتحذيرات والتهديدات التركية كانت تهدف في معظمها إلى إقناع البارزاني بإلغاء/تأجيل الاستفتاء ضمن موجة الضغوطات التي تعرض لها الرجل، لما تملكه أنقرة من أوراق قوة ضده تبدأ بالعلاقات التجارية الجيدة ولا تنتهي بالتواجد العسكري على أراضي الإقليم مروراً بالتجارة البينية والاستثمارات التركية فيه وتصدير نفطه عبر أراضيها.
وهناك تفسير ثالث يرد في بعض المقالات والنقاشات مفاده أن أنقرة ليست مستاءة جداً من مسار استقلال كردستان العراق الذي ترى أنه سيتحقق يوماً ما وبالتالي فهي معنية بعلاقات سياسية واقتصادية جيدة معه، وما الموقف الحاد منها اليوم إلا إرضاء للشارع التركي وخصوصاً القومي منه في ظل التحالف السياسي بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية ومع قرب الانتخابات البرلمانية والرئاسية في 2019.
ثمة احتمال رابع، وهو الأرجح لدي حتى الآن، يشير إلى انزعاج أنقرة بخطوة البارزاني الأحادية دون التشاور معها وهي التي نسجت معه أفضل العلاقات وقدمت له وللإقليم الدعم وللبشمركة السلاح والتدريب …الخ، ولعلها كانت قد حصلت منه على تعهد بعدم الذهاب للاستفتاء ومسار الانفصال بقرار ذاتي، وهو ما قد يفسر حديث اردوغان عن “الخيانة” التي مثلها مسار الاستفتاء دون الرجوع لبلاده.
التفسير الخامس، وأضعه جنباً إلى جنب مع السابق، هو أن تكون تركيا قد حسنت العلاقات مع البارزاني والإقليم على مدى السنوات السابقة رغم علمها بنواياه وأحلام أكراد العراق باعتبارها قادرة على إجهاض مسار الاستقلال والانفصال عبر إيقاف تصدير النفط وتجميد العلاقات التجارية والاقتصادية وغلق الحدود المشتركة، خصوصاً في ظل رفض بغداد وطهران أيضاً لهذا الخيار. وبالتالي، تكون العلاقات الجيدة مع البارزاني حافزاً له للبقاء داخل السياق وضمن العراق الفيدرالي، وفي نفس الوقت تحتفظ أنقرة في يدها دائماً بإمكانية تقويض مقومات الدولة إذا ما قرر ذلك في ظل اعتماد اقتصاد الإقليم بشكل شبه كامل على العلاقة مع تركيا، ولعل في هذا المعنى ما يفسر جزئياً تلميح اردوغان إلى “جوع” الإقليم إن توقفت الشاحنات التركية عن الذهاب إلى هناك.
في كل الأحوال، ما زالت أنقرة تصر على ضرورة تحلي البارزاني بـ”الحكمة” والعودة عن هذا المسار رغم إجراء الاستفتاء، وهي تعرض الحوار مع بغداد كحل للأزمة من جهة، لكنها تلوح أيضاً من جهة أخرى بالعقوبات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية إن لزم الأمر، خصوصاً إذا حصلت أي تطورات غير موغوب بها على صعيد رسم الحدود و/أو التعرض للتركمان و/أو تغيير وضعية كركوك.
بالنظر للتصريحات الأخيرة، يبدو البارزاني راغباً بالحوار لكن متسلحاً بنتيجة الاستفتاء، بينما تريده بغداد بدونه، ولذا فمن المنطقي توقع أن تتبلور القرارات التركية بناءً على مسار الأزمة نفسه وخيارات البارزاني في هذا الإطار. لكن يبقى السؤال الأهم بالنسبة لأنقرة: هل تكمن مصلحتها في تقويض فكرة الدولة الكردية في العراق حتى ولو خسرت البارزاني، أم عليها ألا تذهب لنهاية الشوط لأن إضعافه سيقوّي ويشجع بدائله ومنافسيه وفي المقدمة منهم العمال الكردستاني المصنف على قوائم الإرهاب والطالباني حليف إيران؟ وهو تحدٍّ جوهري قد يساهم تفكيكه في استشراف مسار الأزمة مستقبلاً، ونترك محاولة الإجابة عليه إلى مقال آخر.