لم تكن صفقة تبادل الأسرى بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والكيان الصهيوني مفاجأة من العيار الثقيل ولا قفزة كبيرة خارجة عن السياق رغم اهميتها، بل كانت حلقة في سلسلة نجاحات وإنجازات الحركة الفتية تضاف إلى إنجازاتها السابقة وهي تقترب من ذكرى انطلاقتها ال 24. وإننا إذ نقرر أنها “تختلف عن الآخرين”، ينبغي لنا أن نؤكد على ثلاث بديهيات حتى لا يفهم الكلام خارج سياقه والمراد منه:
الأولى، أن ذلك لا ينتقص ولا يغمز من قناة أي من الفصائل الأخرى التي لكل منها تاريخه ودوره وثقله، وكثير منها ما زال فاعلاً في ساحة المقاومة.
الثانية، أن ذلك لا يعني مطلقاً تنزيه حماس عن الأخطاء، فقادتها وجندها وعناصرها بشر يصيبون ويخطئون، ولكننا عندما نقيّم يجدر بنا التفريق بين الأخطاء والخطايا.
الثالثة، أنا عندما نقول الذكرى ال 24 فإننا نقصد ذكرى الإعلان وليس ذكرى الولادة، ولادة ذلك الفكر المتجذر عميقاً في الشعب الفلسطيني منذ النصف الأول من القرن الماضي كحركة الإخوان المسلمين، ذلك الفكر الذي انبثقت الحركة منه ولا تنكر في أدبياتها ان احد واجهاته السياسية.
.عوداً على بدء، تختلف حماس عن الآخرين فكراً وممارسة وإنجازات. ولا يستطيع منصف (محباً كان أم مبغضاً) أن ينكر دورها المتميز في المقاومة والصراع مع الاحتلال. لقد ظهرت حماس في وقت مفصلي كان يشهد تراجعاً لدور وثقل منظمة التحرير ممثل الشعب الفلسطيني، وبدء المفاوضات السرية التي أفضت إلى “أوسلو” سيئة الصيت والسمعة، فكان لوجودها وفعلها المقاوم أبعد الأثر في الحد من سرعة وتخفيف تكلفة العملية السياسية التي قادتها المنظمة (السلطة لاحقاً). وقفت حماس (مع غيرها من الفصائل، على درجات متفاوتة) موقفاص صلباً من “أوسلو” وقاومتها، إلى أن وصلنا اليوم إلى مرحلة رأينا فيها طرفيها يعلنان وفاتها.
.شاركت حماس في الانتفاضتين الأولى والثانية، وكان لها دائماً بصمتها المميزة، وتطورت وطورت فعلها لامقاوم من الحجر والسكين إلى المسدس والصاروخ مروراً بالعمليات الاستشهادية، تلك التي أقضت مضاجع المحتلين وجعلتهم يطرحون اسئلة لم يعرفوها من قبل عن الأمن والأمان والوجود والمصير.
.قدمت حماس خيرة أبنائها في ساحات الجهاد والمقاومة، يتقدمهم معظم الصف الأول من قادتها وأبنائهم وعائلاتهم، مما أعطاها مصداقية عالية لدى الشارع الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية. فلاشيخ المؤسس أحمد ياسين، والرنتيسي، وأبو شنب، وشحادة، والمقادمة، والجمالين، وعقل، وعياش، وصيام وريان، وما بينهما من عشرات الأسماء، خطوا بدمائهم حروف ثقة الشعب الفلسطيني بحماس وصدق مقالها.
.عملت حماس منذ النشأة وحتى قبل الإعلان في منظومة العمل الاجتماعي والخيري والثقافي والخدماتي، فقدمت مثالاُ عن العمل الناجح المترافق مع نظافة اليد، وتغلغلت في أوساط الشعب، وعرّفت عن نفسها بأفضل ما يكون. أمثلة بقيت حية في ضمير المواطن حين جاء وقت أراد ان يختار فيه ممثليه.
.بعد اختيارها كأغلبية برلمانية فيما عرف وقتها ب”التسونامي السياسي”، شكلت حماس أو تركت لتشكل الحكومة بمفردها، في ظل مقاطعة داخلية، وتواطئ عربي، وحرب صهيونية، ودعاية غربية مضادة. كان المقصود إفشال التجربة-النموذج، لكن حماس استطاعت (إلى حد ما لا ينبغي تضخيمه والمبالغة فيه) في تسيير أمور المواطن، وحققت -فعلاً لا قولاً- الأمن والأمان، وأوجدت فرص العمل، والأهم من ذلك كله احتضنت المقاومة من كل الفصائل ورعتها وسعت لتنسيقها، مقدمة بذلك دليلاً واقعياً على إمكانية الجمع بين الحكم والمقاومة، ودليلاً آخر على قدرة “الإسلاميين” على الحكم وحملهم مشروعاً يمكن تطبيقه.
.حافظت الحركة خلال مشوارها الطويل على ثوابت القضية وحقوق الشعب الفلسطيني، مع مرونة واضحة في كثير من الأمور التفصيلية، مما أعطاها القدرة على تخطي الكثير من الصعاب والعوائق، وأكسبها حضوراً عربياً وإقليمياً بل ودولياً متزايداً. أجادت حماس في تلوين الخطاب السياسي في مقابل التصلب في المواقف المفصلية والحقوق والثوابت، محققة بذلك توازناً صعباً حتى على أقدم الأحزاب السياسية وأكثرها تمرساً.
.وفي معركة الفرقان أثبتت حماس بما لا يدع مجالاً للشك أنها رأس حربة المقاومة في فلسطين، وأنها حين تهدئ فعلها المقاوم تكون في مرحلة تأهب واستعداد وحشد. كان لصمود الحركة ومعها الشعب الفلسطيني أثر بالغ جداً في تغيير موازين القوى والرعب، وأثمر التفافاً أكبر حول مشروع المقاومة، وتراجعاً واضحاً في المشروع الصهيوني وقدرته على الردع، وانفتاحاً دولياً معبراً بشكل او بآخر عن فشل سياسة المجابهة ومحاولات الاستئصال.
.وجاءت صفقة الأسرى التي أسمتها حماس “الوفاء للأحرار” لتكمل العقد الفريد من الإنجازات، فإقدامها على أسر الجندي، وقدرتها على الحفاظ عليه، وصمودها في المفاوضات غير المباشرة وانتزاعها العديد من التنازلات الصهيونية، إضافة إلى الرسائل والدلائل العديدة المتضمنة في عدد وتوجهات وأماكن وجنسيات الأسرى، كل ذلك كان يضيف في رصيد الحركة التي أثبتت فعلياً تصدر الأسرى لقائمة اهتماماتها ونجاعة أسلوب الصمود في المفاوضات.
.وجاءت رياح التغيير العربي التي اقتلعت نظماً وغيرت بلداناً، موجة لا يستطيع أحد أن ينكر قاطعاً عدم تأثر بعضها ببعض، وفي المقدمة منها تجربة حماس في المقاومة والحكم. فحماس قدمت مثالاً واقعياً مجرباً على القدرة على الصمود والثبات والانتصار والتغيير، أحسب أنها احتلت مكانها في وجدان الشباب العربي (إلى جانب الكثير الكثير من العوامل الأخرى) الذي ثار عندما آمن بقدرته على الصمود والتغيير والانتصار.
إلا أن ما ينبغي لحماس أن تدركه وهي تحتفل بذكرى انطلاقتها الرابعة والعشرين، أن التغني بالماضي لا يرجع الحقوق، وأن من يقود المقاومة والشعب يتحمل تبعات كبيرة، وأن غلطته بألف من أخطاء غيره، وأن الشعب الفلسطيني ما زال في مرحلة التحرر من الاحتلال وليس في مرحلة الدولة والحكم، مما يفرض مرونة اكثر وجنوحاً أكبر نحو المشاركة والتعاون والتنسيق، فالقدس والأقصى وفلسطين أكبر من أن يحررها فصيل واحد مهما كبر أو تميز، وهذه هي ميزة القيادة لدى الأفراد والأفكار.