فشل محادثات أستانا ومصير إدلب
TRT عربي
رغم الجهد الروسي المبذول دبلوماسياً وإعلامياً قبلها لرفع سقف التوقعات و/أو الإيهام باختراقات متوقعة، إلا أن محادثات أستانا في نسختها الـ12 خرجت مخيبة للآمال، حيث كان بيانها الختامي تكراراً رتيباً لبيانات الجولات السابقة.
للمفارقة، تفصيلان فقط اختلفا عن الجولة السابقة من المحادثات وكلاهما لا علاقة له بالمحادثات نفسها، الأول تغيير اسم العاصمة وبالتالي المحادثات من “أستانا” إلى “نور سلطان” على اسم رئيس البلاد السابق، والثاني إدانة قرار الإدارة الأمريكية الاعتراف بضم الجولان لدولة الاحتلال.
ما دون ذلك، فقد دار البيان الختامي حول نفس العناوين الروتينية السابقة، من رفض الحل العسكري إلى الحفاظ على وحدة الأراضي السورية واستقلالها وسيادتها، ومن التأكيد على مكافحة المنظمات الإرهابية إلى الدعوة لإدخال المساعات الإنسانية، ومن التأكيد على أهمية الدوريات التركية – الروسية المشتركة في إدلب إلى استمرار التشاور حول باقي الملفات، والتي تُعَدُّ ضمن الملفات الرئيسة.
الأهم أن نقطة الخلاف الرئيسة التي توقفت عندها المحادثات السابقة بقيت تراوح مكانها، حيث لم يحل الخلاف حول أعضاء اللجنة الدستورية. الحديث عن عدم الاتفاق على 6 أسماء فقط ضمن اللجنة ليس سوى رأس جبل جليد الخلافات والتي تبدأ من عمل اللجنة وصلاحياتها، وتمر عبر الحل السياسي وفلسفته، وصولاً للمواجهات الميدانية الضمنية بين الدول الضامنة في أستانا.
فالمعارضة تسعى لصياغة دستور جديد وحل سياسي في إطار الندية مع النظام، بينما يريد الأخير ومعه روسيا تعديلات على الدستور القائم بحيث يكون هو مرجعية الحل وليس أحد أطرافه. وفي نهاية المطاف، فالخلافات على “الطاولة” تعكس التباينات في المواقف “الميدانية” بين القوى الإقليمية المختلفة. ذلك أن مسار أستانا يجمع في ظاهره المتنازعَيْن المحليين، بينما يضم في الواقع القوى الثلاث الضامنة لوقف إطلاق النار من جهة، ويجمعها في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها إلى حد ما أو على الأقل في مواجهة مسار جنيف من جهة أخرى.
بهذا المعنى ووفق هذه المعطيات، يمكن القول بأن النسخة الـ12 من أستانا قد فشلت فشلاً ذريعاً، ما يعني أنه سيكون لها تبعات سياسية وميدانية. بخصوص الثانية وفي ظل استمرار الوجود الأمريكي في مناطق شرق الفرات بل وفي ظل التحدي الأمريكي من خلال “دبلوماسية حاملات الطائرات” مؤخراً، فإن المرجح أن تكون التفاعلات على جبهة إدلب، وهو ما حصل.
القصف الروسي المستمر منذ أسابيع على المحافظة رغم اتفاق خفض التصعيد استؤنِفَ بوتيرة أسرع وأثقل خلال وبُعيدالمحادثات موقعاً المزيد من الضحايا تحت لافتة مكافحة الإرهاب في رسالة روسية واضحة. لكن الرسالة الأوضح أتت على لسان الرئيس الروسي من الصين.
فخلال مشاركته في منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي في العاصمة بكين، قال الرئيس الروسي ما معناه إنه لا حل في إدلب إلا بعملية عسكرية واسعة، لكنه لم يرجح إطلاقها في الوقت الحاضر لعدة أسباب في مقدمتها الكثافة السكانية العالية وبالتالي الكلفة البشرية الباهظة للعملية العسكرية.
يذكّر بوتين هنا بفلسفة بلاده للحل السياسي، وهي تغيير الحقائق الميدانية واستمرار القصف والضغط لجر المعارضة لتنازلات إضافية وإرغامها على القبول بالحلول المعروضة عليها من دمشق وموسكو والتي هي في جوهرها مجرد إعلان استسلام. لكن الأخطر في كلامه أنه أعاد التأكيد على الخلاف الرئيس بين روسيا وتركيا حول اتفاق سوتشي، حيث تريده الأولى مؤقتاً لحين تسلم النظام للمحافظة أسوة بمناطق أخرى بينما ترغب الأخيرة في إدامته وصموده لحين التوصل لاتفاق سياسي يرضي جميع الأطراف وبما يجنب المنطقة مأساة إنسانية ويحميها – ومن خلفها الدول الأوروبية – من موجة لجوء كبيرة.
وفي ظل الضغوط الأمريكية عليها فيما يتعلق بصفقة S400 والعقوبات على إيران من جهة، وتفرد موسكو بالمشهد السياسي والميداني فيما تبقى من الجغرافيا السورية من جهة أخرى، يبدو أن مساحات المناورة تضيق على أنقرة في إدلب إلى حد كبير، ما يزيد من مخاوف المعارضة والمدنيين المقيمين في إدلب والذين يراهنون على قدرة تركيا على منع العملية العسكرية التي يهدد بها بوتين.
لكن هذا لا يعني أن جعبة تركيا فارغة تماماً من الخيارات. فهي مستمرة في جهودها لمحاولة تغييب هيئة تحرير الشام عن المشهد وإن كانت لم تصل لشيء ملموس في هذا الإطار، بل لعل الأسابيع الماضية شهدت عكس ذلك تماماً. لكنها كذلك تعمل على إقناع روسيا بتطوير مسار التنسيق والتعاون والدوريات المشتركة في إدلب وهو ما أكد عليه البيان الختامي، وهي كذلك ترسل رسائل مهمة تؤكد رفضها العملية العسكرية من خلال التعزيزات العسكرية التي ترسلها للمنطقة لزيادة مستوى الردع لدى الطرف الآخر تجنباً لمخاطر الاحتكاك و/أو المواجهة مع القوات التركية المتواجدة هناك.
بهذا المعنى، ما زالت تركيا قادرة على كبح جماح النظام ومن خلفه روسيا بخصوص إدلب، لكن ذلك لا يعني أن ثمة ضمانة على المدى البعيد لعدم حصول العملية. فحالة التوازن النسبي التي تعمل عليها أنقرة بين واشنطن وموسكو في سوريا تفيدها في محطات كثيرة وتمنحها الكثير من المرونة وبعض المكاسب، لكنها كذلك تُحكم الضغط عليها وتضيّق عليها هامش المناورات في أحيان أخرى خصوصاً حين يزداد منسوب الضغوط الأمريكية عليها ما يضعف موقفها أمام روسيا، الأمر الذي يترك مصير إدلب على المدى البعيد غامضاً وفي مهب الريح.