فرصة لفتح صفحة جديدة في العلاقات السعودية التركية

لم يكن اسم الملك فقط هو الذي تغير مؤخراً في المملكة العربية السعودية بعد وفاة العاهل السعودي عبدالله وتولي الملك سلمان مقاليد الحكم، بل تشير بعض الشواهد إلى احتمال حدوث تغيرات في السياسة الخارجية للدولة العربية الأكثر تأثيراً في الإقليم. وتأتي زيارة الرئيس التركي اردوغان المهمة للمملكة لتطرح أسئلة مهمة حول إمكانية حدوث تقارب ما بين البلدين، قد يؤدي لتسوية عدد من الملفات الحساسة.

 

الاستعداد التركي وأسبابه

على الجانب التركي، وبعد سنوات من العلاقات الفاترة مع السعودية بسبب عدد من الملفات- على رأسها الربيع العربي وخاصة مصر –  ووصول الأمر إلى ما يشبه القطيعة، تبدو أنقرة راغبة اليوم في إعادة الدفء إلى هذه العلاقات أكثر من أي وقت مضى، ولديها بين يدي هذه الرغبة عدد من الأسباب الوجيهة.

فقد دفعت الأخيرة من مصالحها وعلاقاتها ثمناً باهظاً لمواقفها من الربيع العربي على وجه الخصوص، سياسياً واقتصادياً. فأقفلت في وجهها أولاً البوابة السورية، ثم أعلنت مصر نيتها إلغاء اتفاقية خط “رورو” للنقل البحري الذي كان يحمل البضائع التركية لدول الخليج تحديداً. كما تراجعت علاقاتها الدبلوماسية مع عدد من الدول تبدأ بمصر ولا تنتهي بدول الخليج، تلك التي يجمعها معها علاقات تجارية يقدر حجمها بأربعة مليارات دولار.

من جهة أخرى تدرك تركيا بلا شك أن الفترة الحالية – فترة تراجع الربيع العربي وقواه- تحتاج إلى مراجعات معمقة ثم إلى موازنات وسياسات مختلفة عن تلك السابقة والحالية، ولعلها تستشعر أهمية التواصل والتحرك السريع لكسر محاولات عزلها، وهو استشعار له ما يبرره خاصة بعد المصالحة القطرية – الخليجية والقطرية – المصرية، وهي حسابات غير بعيدة عن براغماتية السياسة الخارجية التركية.

ومن جهة ثالثة، يعرف دهاقنة السياسة في الأناضول أن التأثير في القضايا الإقليمية يحتاج إلى جسور التواصل، سيما مع الدول الفاعلة في هذه الملفات، وهنا تبرز أهمية إعادة فتح القنوات شبه المغلقة مع الرياض، والتي أدى إغلاقها إلى خسارة تركيا الكثير على الساحة الإقليمية والدولية كان آخرها مقعد مجلس الأمن بفعل الضغط السعودي – المصري، وفق الرواية التركية غير الرسمية.

 

التحديات المشتركة

ومما يزيد من أهمية التقارب التركي السعودي في هذه اللحظة الفارقة تحديداً، تعدد ملفات الهموم والمخاطر المشتركة بين البلدين وتقارب مواقفهما فيها بشكل بعيد، إضافة لتراجع محورية كثير من القضايا الخلافية بين العاصمتين.

فلقد استثمرت إيران فترة الفراغ السياسي التي سببها مرض العاهل السعودي الراحل لتجعل من الحوثيين في اليمن أمراً واقعاً يصعب تجاوزه أو رسم مستقبل البلاد دون مشورته ورضاه. ولئن غضت المملكة النظر في بداية الأمر عن تقدم الحوثيين لحسابات تتعلق برغبتها في تحجيم دور حركة الإصلاح تحديداً، إلا أنه يمكن تلمس امتعاضها من ذهاب الحوثيين أبعد بكثير مما كان مسموحاً لهم أو مطلوباً منهم في لعبة الاحتواء المزدوجة. هكذا، وجدت الرياض نفسها بين ليلة وضحاها مهددة بالتواجد الإيراني قريباً من حدودها، وأمام سيناريوهات تقسيم اليمن أو إشعال الحرب الأهلية فيه، وتهديد مضيق باب المندب ذي الأهمية الاستراتيجية، مما يعتبر خرقاً لخطوط أمنها القومي الحمراء.

ولا يقف التهديد الإيراني عند حدود اليمن، بل يتعداها إلى العراق وسوريا ولبنان، وبذلك تتحقق مقولة “العواصم الأربع” التي أطلقها أحد السياسيين الإيرانيين قبل فترة، وهو تهديد لأمن السعودية ودول الخليج بقدر ما هو تهديد لأمن تركيا، وهنا تلوح أمام الطرفين فرصة التلاقي لمحاولة موازنة التمدد الإيراني قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة تماماً.

كما لا يفوت الطرفين خطورة المفاوضات الإيرانية مع الغرب حول الملف النووي، حيث تسعى الاستراتيجية الإيرانية إلى الاستفادة المتبادلة بين الحدثين، بحيث يضاعف تمددها في الإقليم من أوراق قوتها في المفاوضات، بينما تفيدها المفاوضات في تقليل حجم الضغوطات الغربية عليها للتوقف عن العبث في الإقليم خشية من فشلها. ووفق هذه الرؤية سيكون من الأهمية بمكان وقف المغامرة الإيرانية في المنطقة عند حدود معينة لمحاولة منع حصول اتفاق يطلق يدها بما يتناقض مع مصالح الدول الأخرى، تحديداً السعودية وتركيا.

من ناحية أخرى، تسود في الدولتين الإقليميتين قناعة راسخة بضرورة زيادة التعاون وصولاً إلى التنسيق الكامل بينهما في ملفات ذات حساسية كبيرة تتوافق آراؤهما حولها إلى حد بعيد، في مقدمتها الأزمة السورية والتحالف الدولي لمواجهة تنظيم الدولة واتهام الغرب لكليهما بدعم “الإرهاب”. كما يمكن ملاحظة انتفاء حدة الخلاف حول الملف المصري مؤخراً، بعد الرسائل التركية الواضحة عن استعدادها “لتطبيع العلاقات” مع القاهرة بوساطة خليجية، خصوصاً إذا ما صحت التكهنات باختلاف رؤية الملك الجديد عن رؤية سلفه إزاء القاهرة.

 

عهد جديد وإشارات إيجابية

دفعت هذه الأسباب وغيرها المسؤولين الأتراك إلى التصريح علناً برغبتهم في تصحيح العلاقات مع الدول “التي ساءت معها العلاقة بسسب بعض الخلافات”، والمقصود هنا مصر ودول الخليج، وعلى رأسها السعودية. فقد أكد نائب رئيس الوزراء والناطق باسم الحكومة بولند أرينتش على ضرورة تحسين العلاقات مع دول الخليج على قاعدة أن الطرفين يحتاجان لبعضهما البعض، بينما اختص وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو السعودية ودول مجلس التعاون بأول جولة خارجية له في عام 2015، فضلاً عن الدلالة البارزة لقطع الرئيس التركي جولته الإفريقية لحضور جنازة الملك عبدالله.

أما على الجانب السعودي، فرغم حداثة التغيير بما يصعّب من إمكانية استشراف أو توقع خطوات أو تعديلات جذرية في السياسة الخارجية السعودية وفق ظروف اللحظة الراهنة، إلا أن الكثير من القرائن والتفاصيل تحمل إشارات إيجابية لا يمكن إغفالها.ذلك أن الساعات الأولى لوفاة الملك الراحل – وقبل إتمام مراسم الدفن – حملت تغييرات جذرية في رأس هرم السلطة في الرياض. ولئن كان من البديهي أو المتوقع تغيير ولي العهد وولي ولي العهد ضمن مفردات التسلم والتسليم وتبديل المراكز، إلا أن إعفاء رئيس الديوان الملكي خالد التويجري من منصبه كان في بؤرة اهتمام المراقبين كدليل على تغير محتمل في الرؤية السعودية.

ذلك أن الأخير معروف بقربه الشديد من ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد وتطابق موقفهما من بعض القضايا العربية والإقليمية وعلى رأسها القضية المصرية والخصومة مع حركات الإسلام السياسي، خاصة الإخوان. من هذه الزاوية، يبدو إعفاء الرجل من منصبه إشارة أولية إلى استعداد العاهل السعودي لإعادة النظر في سياسات المملكة الخارجية، سيما وأنه معروف بعدم عدائه للحركات الإسلامية، كما يشاع عن علاقات ولقاءات جمعت بين بعض مستشاريه ورموز ليبرالية من المعارضة المصرية.

فإذا ما أضفنا غياب ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن راشد والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي – وأي مسؤول من دولتيهما – عن جنازة الملك عبدالله إلى كل هذه القرائن، فربما نكون أمام مشهد تعيد فيه السعودية حساباتها لإطفاء الحرائق في الإقليم والالتفات إلى المخاطر ذات الأولوية القصوى، مما يجعل التوقعات بطرحها “مبادرة” ما لتسوية الأوضاع في مصر أمراً لا مبالغة كبيرة فيه.

أما فيما خص العلاقة مع أنقرة تحديداً، فقد حملت الأسابيع القليلة الماضية إشارات لا تخلو من الدلالات، حيث زار وزير الداخلية التركي أفكان ألا السعودية محاضراً عن مكافحة الإرهاب بدعوة من نظيره السعودي الأمير محمد بن نايف، كما استضافت جدة الفرقاطة التركية (تي سي جي بيوك) تركية الصنع، وشارك رئيس أركان الجيش التركي نجدت أوزال في اجتماع قوى التحالف الدولي لمكافحة “تنظيم الدولة” في المملكة، وتأتي زيارة الرئيس اردوغان لتتوج كل هذه البوادر الإيجابية، معطية المتفائلين بعودة العلاقات لدفئها أسباباً جديدة. يضاف إلى كل ذلك العلاقة الشخصية المتميزة التي تجمع بين الزعيمين التركي والسعودي منذ أن كان الأخير ولياً للعهد، حيث زار تركيا في أيار/مايو 2013 ووقع مع الجانب التركي على اتفاقية التعاون الصناعي الدفاعي.

 

إن المنعطف التاريخي الذي تمر به المنطقة ذو دلالات جلية تتعلق بحقائق السياسة والجيوبوليتيك وخطورة التطورات وحساسية اللحظة التاريخية، كمايحمل لصناع القرار في كل من أنقرة والرياض رسائل واضحة بضرورة المبادرة إلى التقارب والمصالحة والتنسيق، بل وإعادة مصر إلى السكة الصحيحة، فهي الضلع الثالث في المثلث السني في المنطقة، الذي يمكنه – متى ما امتلك القرار والإرادة – أن يوازن التغول الإيراني، بما يمكــّـنه من تجنيب المنطقة مغامرات غير محسوبة العواقب وإمكانية صياغة حلول معقولة ومقبولة للملفات المختلفة – سيما القضية السورية – التي تستنزف شعوب ودول المنطقة مادياً ومعنوياً.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

تركيا .. دقت ساعة الانتخابات

المقالة التالية

فرص “عاصفة حزم” محتملة في سوريا وخيارات تركيا

المنشورات ذات الصلة