عوامل تصعّب تدخل الجيش التركي في الأزمة

ما زالت تردني يومياً أسئلة عن إمكانية قيام الجيش التركي بانقلاب عسكري على غرار ما حصل في مصر، وخاصة بعد البيان الذي أصدره وقال فيه أنه “لا يود أن يرى نفسه في خضم المساجلات السياسية”. إذ يبدو أن التجربة المصرية حفرت في الأذهان عميقاً، وأحدثت أثر “الشوربة” التي تؤدي إلى النفخ في “الزبادي”. والحقيقة، إضافة إلى الوقائع التي لا تشير إلى شيء من هذا القبيل قريباً، هناك عوامل عدة تحول دون حدوث هذا الانقلاب في تركيا:

الأول، أن كل الانقلابات السابقة في تركيا (دموية أو ما بعد حداثية) كانت تتم طبقاً للدستور، الذي كان ينص على أن من مهام القوات المسلحة الحفاظ على علمانية الدولة، فكانت تدخلات الجيش في الحياة السياسية تتم تحت هذا البند. تغيرت هذه المادة في الدستور مؤخراً وحصرت مهمة الجيش في دفع الأخطار الخارجية، مما يجعل أي تدخل (مهما كان) في الحياة السياسية جرماً يعاقب عليه القانون.

الثاني، أن الجنرالات الذين قاموا بانقلابي عام 1980 وعام 1997 ما زالوا يحاكــَمون حتى الآن أمام القضاء التركي، وهذا يضعف من موقفهم ويشيء إلى صورتهم أمام الشعب، ومن غير المتوقع أن يقوم الجيش بمغامرة أخرى حالياً. حيث، إذا كان من قاموا بانقلاب له سند دستوري يحاكــَمون، فكيف بمن يقوم بتحرك خارج إطار الدستور؟؟؟!!

الثالث، أن الشعب التركي (وخصوصاً الحركة الإسلامية) تعود أن يقابل الانقلابات بسلبية تامة، دون معارضته أو النزول للشوارع لإسقاطه، محاولاً العمل من جديد سياسياً. لكن الشارع الإسلامي تحديداً أرسل عدة رسائل (عبر بعض الشخصيات الشابة والمؤسسات) أنه لن يقف مكتوف الأيدي إزاء أي مؤامرة على رئيس وزرائه وحكومته. يبدو لي هنا أن الأحداث في مصر بعد الانقلاب، إضافة لكاريزما اردوغان والإنجازات التي حققتها حكومته (خاصة الحرية التي عاشها الإسلاميون في عهده) لعبت دوراً مهماً في هذه الرؤية وهذا الموقف.

الرابع، أن تركيا لم تعد دولة من دول العالم الثالث، نتكلم عن عضو الناتو والاقتصاد الـ17 على العالم، وعضو “قيادة” مجموعة العشرين (G20)، والدولة الإقليمية القوية، الموجودة على حدود سوريا (ساحة الصراع الدولية)، فليس من السهل أبداً ترتيب أي انقلاب فيها أو إحداث فوضى كبيرة تسقط الاقتصاد والدولة والسيطرة على الحدود.

الخامس، بعد 11 عاماً من الحكم، ومع الكثير من التغييرات القانونية والمحاكمات للعسكريين والعلاقات مع القيادات العسكرية نستطيع أن نقول أن اردوغان (أو العدالة والتنمية أو الحكومة) له بعض الرجال أو التحالفات في قيادة الجيش، إضافة طبعاً لأغلبية ربما ضده. وهذا يعني أن ترتيب أي انقلاب لن يكون بسهولة الانقلابات السابقة، ولن تكون حساباته كما السابق. فعلى من سيرتب لانقلاب أن يحرص على سرية أكبر وأن يعمل حساب معارضة قيادات وقوات في الجيش ضده ومع الحكومة، وهذا أكبر خطر على أي انقلاب (انشقاق أو مواجهة).

السادس، أن الانجازات السياسية والاقتصادية والقانونية التي قامت بها الحكومة على مدى 11 عاماً تعطيه رصيداً من الالتفاف الشعبي والمصداقية والتعاطف وتصديق مقاربته بخصوص مؤامرة دولية تتم بأيد داخلية.

السابع، أن الوضع الإقليمي الذي كان قد بدأ بالتشكل قد فشل في تثبيت أركانه. فشل الانقلاب في مصر في إحداث أي استقرار أو كسب أي مشروعية، وفوت التونسيون فرصة الانقلاب، وفي اليمن سار البلد نحو الاستقرار بعد حادثة الاغتيال التي يعتقد أنها كانت مقدمة لانقلاب. فإذا كانت الانقلابات قد فشلت في تلك الدول، فمن باب أولى أن يتم التفكير ملياً قبل أي خطوة متهورة في تركيا.

الثامن، أن مؤسسات الدولة الأخرى ليست ضد الحكومة. فقائد جهاز المخابرات هو ذراع اردوغان الأيمن، والقيادات الأمنية تقال وتغير أمكنتها بسرعة منذ يوم الأزمة وقد وصل العدد إلى 700، ووسائل الإعلام منقسمة بين هنا وهناك (الأغلب مع الحكومة ربما)، والقضاء كذلك منقسم.

التاسع، أن الوضع في تركيا يسير للهدوء السياسي والتحسن الاقتصادي وانتظار العملية القضائية، وليس للتوتر والاحتقان، وهذا يقلل من فرص ومخاطر أي تدخل للجيش في الحياة السياسية.

هنا يجب علينا أن نلحظ تحسن الليرة التركية أمام الدولار، وهذا يعكس عودة الاستقرار السياسي والثقة في اقتصاد البلاد. فالحكومة قد انتقلت بسرعة وسلاسة من مربع الدفاع إلى مربع الهجوم. من ناحية أوقفت القضايا العشوائية (التي تهدف إلى التشويه والتشويش) دون الرجوع للقيادات، ومن ناحية أخرى قلمت أظافر “الهيئة العليا للقضاة والنواب العامين” وألزمتهم بعدم القيام بأي تصريح إلا عبر رئيس الهيئة وهو وزير العدل، ومن ناحية ثالثة كذبت بالوثائق الكثير من الإشاعات حولها، ومن ناحية رابعة كشفت مصداقية طرحها بخصوص “المؤامرة الاقتصادية” (انتقال صفقات نفط مع شمال العراق من بنك هالك إلى مصارف أمريكية، المصرف التركي القريب من الجماعة الذي جمع الدولارات من السوق قبل بدء القضايا مباشرة..الخ)، ومن ناحية أخرى ما زالت تعمل بهدوء على تغيير وإقالة القيادات الأمنية القريبة من الجماعة في معظم المحافظات التركية. ربما يكون الحديث كثر عن تدخل الحكومة في القضاء، لكنه أنهى تقريباً الحديث عن فساد الحكومة خصوصاً بعد إقالة الوزراء والتغيير الحكومي.

الخلاصة، لا جيش في العالم الثالث يؤمن جانبه، لكن كثيراً من العوامل الواقعية وقوية التأثير تمنع الجيش من القيام بهكذا مغامرة، إذا افترضنا أنه يريد أو يفكر في القيام بها. والله أعلم.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

سعيديات 2013

المقالة التالية

تعقيباً على مقال الأستاذ عبدالباري عطوان عن تصريحات غول حول ضرورة مراجعة تركيا لسياساتها تجاه سوريا

المنشورات ذات الصلة