عن فضيلة النقد الذاتي: لئلا تتبع حماس خطى فتح
إضاءات
8 كانون الثاني/يناير 2017
في مشهد غارق في السريالية والبؤس ومحمَّل بالدلالات كثيفة الخطورة، غطت القناة الصهيونية الثانية مسيرة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح في بيت لحم قبل أيام. في هذه المسيرة، رُفعت صور دلال المغربي إلى جانب صور السيد محمود عباس وصدحت الحناجر بهتافات نادت بالحل السياسي بينما الأيدي تحمل المسدسات “البلاستيكية”. لم يخف هذا التناقض على مذيع القناة، إضافة لتناقض ثان بين هذه المسيرة ومثيلتها قبل عامين حين كانت “الأجواء عدوانية أكثر” والمتظاهرون يحملون السكاكين والمسدسات الحقيقية.
بيد أن المدهش كان أن بعض الشباب المشارك في هذه المسيرة، مسيرة حركة تحرر وطني على أراض تحت الاحتلال، وقف دون تحرج ليجري حواراً مع مراسل القناة “الإسرائيلية” الثانية، وليتحدث عن مفردات السلام والمفاوضات ورفض السلاح و”العنف” والإيمان بالعيش المشترك.
هذه الحركة التي لا يملك عارف بالقضية الفلسطينية أن يزاود على منطلقاتها وتاريخها ورجالها الأولين، الذين كان جزء مهم من قياداتهم من الإسلاميين والإخوان المسلمين مثل خليل الوزير والزعنون وصلاح خلف ومحمد يوسف النجار(1)، يتساءل المرء اليوم كيف وصلت إلى هذه المرحلة وقبل ذلك إلى تمرير وإقرار اتفاق أوسلو بكل ما فيه من إضرار بالقضية الفلسطينية وتنازلات عن ثوابتها(2).
كنتُ قد أفردت لذلك المسار مقالاً يتحدث عن سياسات الاحتواء ومسارات الانحراف في الحركة على مدى عشرات السنين(3)، وكيف أن سياسات مشابهة تحاول الدفع بالفاعل الآخر في المشهد السياسي الفلسطيني أي حركة المقاومة الإسلامية – حماس إلى مسارات مشابهة، باعتبار أن سياسة الاحتواء تصبح في العادة بديلاً للتعامل مع حركات المقاومة وقوى التحرر حين يصعب كسرها وهزيمتها.
أتناول في هذا المقال أحد أهم أسباب منحنى التراجع وهو غياب النقد الذاتي. فمما أوصل فتح لما وصلت إليه تفويضُ القاعدة للقيادة لتفعل ما تريد دون رقابة أو محاسبة، من باب الثقة بحكمها على مصالح الشعب الفلسطيني وقضيته أو بسبب الديناميات الداخلية للحركة من إغلاق أبواب النقد إلى استخدام المال السياسي إلى غيرهما من الأسباب.
وحماس – كفتح – حركة لها قيادتها وسياستها ونظامها الداخلي بما يعطيها خصوصية كبيرة، لكنها أيضاً أصبحت شأناً عاماً، ليس فقط بسبب طغيان عصر المعلومة والإعلام والفضاءات المفتوحة، ولكن أيضاً للمكانة التي تتبوأها في الشعب الفلسطيني وانعكاس قراراتها عليه وعلى قضيته. وإذا ما كان ثمة قنوات للنقد والتصويب “داخلياً” ومؤسساتياً فهناك حاجة ضرورية أيضاً للنقد العام المعلن أيضاً.
في ظل الأزمات المتعاقبة والمتزامنة التي تمر بها المنطقة ومع تراجع القضية الفلسطينية على أجندة الاهتمام الدولي والإقليمي والعربي إضافة لافتقاد المقاومة الفلسطينية لحلفاء حقيقيين، يضطر السياسي أحياناً إلى مواقف وتصريحات و”سكتات” قد تكون مفهومة في سياق الاضطرار، لكن حسابات السياسي لا تنبطق بالضرورة على الناشط والمثقف والمواطن العادي إذ يسع الأخير ما لا يسع الأول.
في هذا الإطار، أرى أن للنقد العلني ثلاثة فوائد رئيسة لا ينبغي الزهد بها:
الأولى، الفائدة العامة المباشرة لأي نقد، أي ضبط المسار من خلال الضغط على صانع القرار السياسي لعدم “المبالغة” في مواقف الاضطرار أو لعدم الانتقال من مرحلة الاضطرار على مضض إلى مرحلة القناعة والرضى بالحدود الدنيا والسقوف الواطئة. بل لعل السياسي ينتفع أحياناً بهذا النقد ويستثمر الحالة العامة بين صفوف أنصاره لدعم بعض قراراته وتوجهاته وترجيح كفته في العلاقات الثنائية مع مختلف الأطراف.
الثانية، المساهمة في الحفاظ على سمعة واسم الحركة في محيطها العربي والإسلامي، فالافتراق الواضح بين الخطاب السياسي وبين نبض القاعدة سيؤدي إلى فهم/قناعة مفاده أن القاعدة تعبر عن المنطلقات الأخلاقية بينما المواقف السياسية تنطلق من اعتبارات الإكراه السياسي.
الثالثة، الحؤول دون تحول المواقف السياسية واطئة السقف أو السكوت عن بعض التجاوزات من مختلف الأطراف إلى “ثقافة” منتشرة تتأسس عليها الأجيال اللاحقة، الأمر الذي يعتبر مقتلاً أخلاقياً وسياسياً لأي حركة تحرر وطني أو فصيل مقاوم. ولعل هذه الفائدة غير المنظورة بشكل واضح ومباشر هي الأهم على المدى البعيد، لأنها تحافظ على أصالة النهج على المدى الاستراتيجي وتحمي الأجيال التي باتت تتغذى وطنياً وسياسياً وثقافياً على وجبات الإعلام التقليدي والجديد من تغول “التبرير” على “التفسير” وتحول “الفهم” إلى “تفهم” وقبول.
لقد حذر محمد قطب في كتابه الألمعي “قبسات من الرسول” من الآفات (سيما الاجتماعية) البسيطة والأخطاء الصغيرة التي تزداد خطورتها وانحرافها مع الوقت منطلِقاً من تفسير أرحب للحديث الشريف “ما أسكر كثيره فقليله حرام”، وهو معنى جدير بالتأمل وأخذ العبر بالتأكيد. فالخطأ متوقع في العمل الاجتماعي/السياسي من حيث هو عمل بشري، لكنه ينتفي حال التعامل معه على أنه خطأ ينبغي تصويبه، بينما ينمو ويتفاقم ويصبح أكثر خطورة إذا ما حظي بحصانة من النقد باعتباره “أمراً طبيعياً” يحصل في أي عمل وبالتالي ينبغي التعايش معه.
بهذا المعنى، لن يكون النقد العلني لأحداث ومواقف وتصريحات علنية نوعاً من التجاوز أو “نشر الغسيل” على الملأ كما تم التعامل معه على مدى عشرات السنين من قبل بعض التيارات والحركات، بل يصبح حاجة وطنية وسياسية طالما التزم بالضوابط المنطقية والأخلاقية المتعلقة برصانة الأسلوب والابتعاد عن الشخصنة واستهداف الصالح العام وعدم إفشاء الأسرار وتجنب الإضرار بالمقاومة واستخدام القنوات الأنسب بهدف التصويب وليس الفضح أو تحقيق مآرب شخصية.
إن طول أمد العمل الفصائلي والمؤسسي إضافة لتبدلات البيئة العربية والإقليمية التي ما عادت حاضنة للمقاومة، كل ذلك قد يجعل الفوارق الضرورية القائمة بين مصالح كل من الوطن والفصيل والمؤسسة والشخص أقل وضوحاً مع الوقت، وهو ما يزيد من أهمية حذر السياسي في ممارسته وضرورة اضطلاع المثقف/المواطن بمسؤولياته.
إن سلامة المنهج الفكري للمقاومة، حماس تحديداً، وتاريخها الناصع وتضحيات قياداتها وأبنائها واستمرارها على النهج المقاوم حتى اليوم لا ينبغي أن يكون عائقاً أمام تقديم النقد لها، بل على العكس تماماً ينبغي أن يكون الحرص عليها وعلى ما قدمت وما زالت ستقدمه دافعاً للحفاظ عليها على هذا النهج استشعاراً لأهميتها وخطورة تراجعها عن ذلك. إن كل ما سبق لا يعطي قداسة أو حصانة لا للمقاوم ولا للسياسي/الشخص ولا للبندقية/الأداة، وإن كنا سنتجاوز جدلية المصطلح فيمكن أن نقول إن المقدس هو الوطن/ القضية أو المقاومة/النهج، وبالتالي يكون النقد وسيلة لإبقاء الشخص والأداة قريبين من بوصلة الوطن والنهج ما أمكن، إذ لا عصمة لحي كما يقولون.
لكم وددتُ توجيه نفس النصح لحركة فتح لكنها قد قطعت أشواطاً طويلة تبعدها عن دائرة هذا المقال وما تحتاجه اليوم ليس مجرد ثقافة النقد بل ثورة تغييرية تعيد الحركة وقيادتها لمنطلقاتها الأولى. بينما أوجّه المقال لحركة حماس، أولاً لأنها التيار الأكبر في المقاومة، وثانياً لأنها البديل المنطقي لقيادة مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، وثالثاً لأنها استعصت على الكسر وبالتالي تُواجَه صهيونياً وإقليمياً ودولياً بسياسات الاحتواء أكثر من سياسات المواجهة أو سياسة العصا والجزرة، ورابعاً لأن أبناءها وأنصارها يظهرون توجاً ملحوظاً (ومشكوراً) لنقد سياسات وتصريحات ومواقف عامة للحركة وقياداتها في مختلف مناطق تواجدها الجغرافي أكثر من غيرهم من أبناء وأنصار الفصائل والحركات الأخرى.
أدرك طبعاً أن حماس، ولأسباب كثيرة، لن تصل يوماً لما وصلت إليه فتح من تنكر للمشروع الوطني والتحول لحزب سلطة سقفه أوسلو والمقدس لديه هو التنسيق الأمني مع الاحتلال، لكن الأمور في نهاية المطاف نسبية. من هذا المنطلق، فلا أقول إن على قيادة حماس عدم الضيق بالنقد أو الاستماع له فقط، بل رعايته وتشجيعه وفتح أفق ومسارات وقنوات له، ثم الاستفادة منه. وإلا، فالبديل هو “وحدانية الرأي”(4) والتفكير بأسلوب “المونولوج”(5)، الأمر الذي سيهدر طاقات كثيرة داخل الحركة بلا استفادة حقيقية منها فضلاً عن سده آفاق التنوع والإثراء والإبداع في صفوفها، وهذا مدخل خطير لا تملك حركة نذرت نفسها لمشروع التحرير رفاهية المخاطرة بولوجه.
كلمة أخيرة للشباب والنشطاء والمثقفين: ما يقيّد لسان السياسي لا ينطبق عليكم ولا يجب أن يؤثر عليكم، بل يسعكم ما لا يسعه، فدوركم غير دوره ومسؤولياتكم تختلف تماماً عن مسؤولياته. وليس لكلامكم نفس تبعات كلامه طالما انضبط النقد بالمحددات والضوابط المذكورة أعلاه، وعليه فهو “هدية” تقدمونها لصانع القرار وليس ثرثرة فارغة أو فلسفة ثقفاوية، فضلاً عن أن يكون فيه ضرر أو إساءة له أو لما يمثل من منصب أو حركة.
المصادر:
- محسن صالح، المسار من الإخوان المسلمين لحماس، الجزيرة نت، 28 كانون الأول/ديسمبر 2016:http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2016/12/28/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%AD%D9%85%D8%A7%D8%B3
- أنظر مثلاً: سعيد الحاج، ما لم أكن أعرفه عن أوسلو، رأي اليوم، 6 شباط/فبراير 2014:
http://www.raialyoum.com/?p=49996
- سعيد الحاج، حماس وسياسات الاحتواء والتطويع فتح نموذجاً، الجزيرة نت، 4 كانون الأول/ديسمبر 2014:
4) أنظر مثلاً:
عبدالله النفيسي، الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية: أوراق في النقد الذاتي، (مكتبة آفاق، الكويت، 2011)، ص 346 – 347.
5) أنظر مثلاً:
عبدالله النفيسي، الحركة الإسلامية: ثغرات في الطريق، (مكتبة آفاق، الكويت، 2012)، ص 162 – 170.