منذ إعلانه عام 1948 على أشلاء الفلسطينيين وأراضيهم، يعاني الكيان الصهيوني من أزمة حقيقية تتعلق بتناقضه مع نسيج المنطقة العرقي والديني باعتباره جسماً غريباً ومشروعاً احتلالياً وإحلالياً. ولئن حاز شرعية الوجود جزئياً بعد حرب 1967 وبدء الحديث العربي عن “إزالة آثار العدوان” بدل “إزالة الكيان”، ثم مع بدء محادثات السلام العربية والفلسطينية معه، إلا أن عقدة الرفض من المحيط ظلت ملازمة له حتى اليوم.
أكثر من ذلك، أدت المتغيرات في المنطقة مع رياح الثورات العربية إلى نقاشات جادة ومعمقة داخل الكيان عن “الخطر الوجودي” الذي يتهدد مستقبله بخسارته عدداً من الشخصيات والأنظمة الحامية له وفي مقدمتها “الكنز الاستراتيجي” حسني مبارك. كان وصول أي شخص/تيار/نظام ممثل للشعوب العربية إلى سدة الحكم يعني تقصير عمر هذا السرطان المزروع في قلب المنطقة. بيد أن الثورة المضادة – سيما في تجليها الأبرز الانقلاب في مصر – أطاحت بآمال الشعوب وإرادتها وأزاحت عن كاهن الكيان أكبر عبء يمكن أن يهدده أو يواجهه، بإرجاع مصر مرة أخرى إلى حظيرة الأنظمة العميلة له والخادمة لسياساته، وهو ما لم يعد سراً بعد كل السياسات التي تنتهجها مصر السيسي فيما يتعلق بالعلاقات مع تل أبيب أو الضغط على المقاومة أو حصار قطاع غزة أو تقزيم دور مصر والإضرار بأمنها القومي.
البارحة، صعد تنياهو منبر الأمم المتحدة، لا ليتحدث عن الخطر الوجودي الذي يواجه “دولته”، بل ليقدم خطاباً “تاريخياً” معلناً من خلاله أن “عهد الحرب المعلنة على إسرائيل في الأمم المتحدة قد ولى”، وأن معظم دول ومناطق العالم قد غيرت أو باتت في طور تغيير نظرتها لـ”دولة إسرائيل”، ومقرراً – فيما اعتبره مفاجأة يفجرها في أروقة الأمم المتحدة – أن أكبر تغيير في هذا الإطار قد حصل في المنطقة مع عدد من الدول العربية.
قال نتنياهو بشكل واضح إن عدداً من دول المنطقة (العربية) بات يدرك أكثر من أي وقت مضى أن “إسرائيل” ليست عدوة بل حليف، في مواجهة العدوَّيْن المشتركين إيران وتنظيم الدولة – داعش، ودعا هذه الدول إلى التعاون في السنوات القادمة “في العلن”، وهي إشارة لا لبس فيها حول “التعاون الخفي تحت الطاولة” الحاصل اليوم، والذي لا أتوقع أن يصدر عليه أي تعقيب عربي فضلاً عن التكذيب والنفي.
الكيان الصهيوني لم يصل إلى هذه المرحلة فجأة أو بشكل اعتباطي، بل كان كل ذلك – وما سيأتي – نتيجة جهد تراكمي بذل على مدى عشرات السنين وفق رؤية واضحة، كما كان أيضاً – وبدرجة لا تقل أهمية عن ذلك – نتيجة لعملية التطبيع المستمرة معه من مختلف الأطراف في المنطقة، والتي شجعت لاحقاً عدداً غير محدود من الدول غير العربية على تطبيع علاقاتها معه. بدأ الأمر في كامب ديفيد ثم أوسلو ووادي عربة، كاتفاقات سياسية مع الأنظمة ما زالت حتى الآن مرفوضة من غالبية شعوب المنطقة، لكن السنوات الأخيرة حملت متغيرات جوهرية وخطيرة على ثلاثة صعد:
الأول، دخول دول عربية أخرى على خط التطبيع العلني أو الوقوف على مشارفه. شاركت الإمارات مؤخراً في مناورات عسكرية مشتركة مع الكيان الصهيوني، لم يقاطع العراق (إضافة لمصر والأردن والسلطة الفلسطينية) كلمة نتنياهو أمام الأمم المتحدة كما لم تفعل ليبيا قبل عام، وأخذت السعودية جزيرتي تيران وصنافر من مصر الأمر الذي يدخلها ضمن سياق “التفاهمات” المتعلقة بأمن الملاحة في قناة السويس وفق اتفاقية كامب ديفيد بحسب عدد من التقارير المهنية المحترمة. يضاف ذلك لمشاركة تركي الفصيل في ندوة علنية مع بعض المسؤولين الصهاينة و”الجهود الكبيرة” التي يبذلها اللواء المتقاعد أنور عشقي لتطبيع العلاقات مع تل أبيب وآخرها الزيارة المشؤومة رفقة وفد من الأكاديميين ورجال الأعمال السعوديين لم يحاسب أي من أفراده حتى الآن رغم أن التطبيع – يفترض – جريمة يعاقب عليها القانون السعودي.
الثاني، إعطاء زخم كبير ومثير لعلامات استفهام مريبة للزيارات التطبيعية للقدس والأراضي الفلسطينية المحتلة تحت لافتة “دعم المقدسيين” والوقوف إلى جانب “السجين في مواجهة السجان” من رموز دينية وفنية وشعبية من عدة دول عربية، لنقل التطبيع من المستوى الرسمي المرفوض والمجرَّم إلى المستوى الشعبي المقبول. زار الأراضي الفلسطينية المحتلة وتحت حراسة جنود الاحتلال وحمايتهم وفود من رجال الدين المسلمين والمسيحيين المصريين (بعد عقود من الرفض) ومن تونس والكويت والسعودية، إضافة إلى زيارة شخصيات بعينها مثل الداعية الحبيب علي الجفري والمنشد سامي يوسف والمطرب صابر الرباعي وغيرهم الكثير.
الثالث، تسابق محموم في عدد من الدول العربية منها الأردن ومصر والجزائر على تغيير المناهج الدراسية للطلاب، سيما في المرحلة الابتدائية، في سياقين متوازيين ومتناغمين. أولهما يتعلق بحذف الكثير من النصوص الدينية (سيما المتعلقة بالجهاد) وصولاً لتغيير اسم محمد وفاطمة إلى عماد ولميس،فيما يرتبط الثاني بالعلاقة مع “الآخر” وتوصيف الكيان الصهيوني وثوابت القضية الفلسطينية. ورغم تقديرنا لأي وكل استدراك على هذه الأخطاء/الخطايا- كما حصل في الجزائر – إلا أنه لا يمكن افتراض الخطأ غير المقصود أو النوايا الطيبة في موضوع يتعلق بالمناهج التدريسية وتربية الأجيال الجديدة، بل يخشى أن لا يعدو الأمر كونه “بالونة اختبار” لما يخطط له لاحقاً.
إذن، يستفيد قادة الكيان الصهيوني من حالة التراجع في المنطقة، ومن النزاعات والصراعات البينية التي تضعف كل الأطراف وتتركه وحده دون خطر أو تهديد كبير، ومن تجريم المقاومة الفلسطينية وحصارها جغرافياً وسياسياً ومالياً، ومن العبث السياسي الذي تمارسه السلطة الفلسطينية وتنسيق أجهزتها الأمنية معه، ومن حالة التهافت الرسمي على التطبيع معه والتي يراد لها أن تصبح شعبية وعادية بل مرغوبة بدعوى دعم الفلسطينيين، ومن المحاولات المستميتة لتغيير وعي الشعوب بخصوص حالة العداء المطلق والمقدس والثابت مع العدو الصهيوني وصولاً لإمكانية التعاون معه ضد أعداء أو خصوم آخرين.
لقد كان خطاب نتنياهو أمام الأمم المتحدة تعبيراً عن مدى ارتكاسة الأوضاع في العالمين العربي والإسلامي، وتدشيناً لمرحلة جديدة يبدو أنها باتت جد وشيكة لتقبل الكيان الصهيوني ودمجه في نسيج المنطقة، وهي حالة جنون تشارك في صياغتها بعض الشخصيات والرموز والتيارات والأنظمة، عرفت أم لم تعرف، بقصد أو بدونه.
إننا أمام مرحلة فارقة وخطيرة لا ينفع معها المجاملات أو الكلام الدبلماسي المبطن، ويجب أن ترتفع بين يديها الأصوات المحذرة من هذا المنزلق الخطير على المستويين الرسمي والشعبي. ينبغي على دول وشعوب المنطقة، سيما العالم العربي، أن تزيل وتعكس أسباب التمدد الصهيوني وتغوله في المنطقة من سلب إرادة الشعوب وتنصيب الأنظمة العميلة له والاضطرابات وإنهاء حالة الصراعات البينية والداخلية بإحقاق الحق وتسوية الخلافات، وتوجيه كل طاقات المنطقة للمشروع الأخطر على المنطقة وعدوها الأبرز والأشرس. وفي كل هذه المحطات ينبغي على كل منا أن يأخذ موقعه ويضطلع بمسوؤلياته، وإلا سنستيقظ على حقيقة أن الأخطبوط الصهيوني قد ابتلع القدس والأقصى والمشروع الوطني الفلسطيني وأدخل المنطقة برمتها إلى بيت طاعته، بينما نكتفي نحن بالبكاء على اللبن المسكوب وترديد خاتمة قصيدة المبدع أحمد مطر:
وبعد عام، وقعت حادثة مثيرة
لم يرجع الثور، بل ذهبت وراءه الحظيرة .. !!