عن “النموذج الصيني” في مواجهة جائحة كورونا
عربي 21
مع ارتفاع فاتورة جائحة كورونا في العالم صحياً واقتصادياً ونفسياً، ومع الازدياد المضطرد والمتسارع في أعداد المرضى والوفيات في عدد من الدول، تتجه الأبصار والعقول بقصد أو لا إرادياً النماذج الناجحة في محاصرة الوباء والحد من سرعة انتشاره لعل فيها ما يمكن الاستفادة منه.
ليس الحديث هنا عن “نسخ” تجربة بلد ما في إذ ليس هناك تطابق بين الدول، فلكل منها دينامياتها الذاتية وسماتها الخاصة من عدد السكان وتوزعه على الفئات العمرية إلى توزع المرض جغرافياً إلى النظام السياسي إلى ثقافة الشعب وعاداته إلى مدى قوة النظام الصحي وغيرها.
وحين نتحدث عن نموذج ما فالمقصود ليس طريقة “علاجه” للوباء وإنما استراتيجيته للحد من انتشاره، ذلك أن عمل القطاع الصحي يأتي لاحقاً على انتشار الفيروس بينما الاستراتيجية الناجحة هي التي تستطيع الحد من انتشاره من خلال منظومة إجراءات متكاملة، وبالتالي فعمل القطاع الصحي ليس أهم و/أول أركان منهجية مكافحة الوباء من حيث الزمن والفاعلية، على عكس الانطباع السائد.
تعدُّ الصين من أوائل الدول التي استطاعت الحد من الوباء إلى حد كبير، وفق ما أعلنته، بعد أن كانت سهام اللوم قد وجهت لها وبحدّة كمصدر للوباء من جهة ولتأخرها في الإعلان عنه من جهة أخرى. بيد أن ذلك لا ينفي أنها وبعد مرحلة أولى “كارثية” من بدء الوباء ثم انتشاره داخلها ثم في العالم استطاعت محاصرته إلى حد كبير، لدرجة أنها “استعرضت” في الإعلان عن انتهاء الوباء لديها بمظاهر احتفالية واضحة، ما دفع الكثيرين لامتداح “النموذج الصيني” في مواجهة الجائحة.
إذا كان الوضع كذلك، فلماذا لا تقلد الدول الأخرى الصين فيما فعلته؟
الحقيقة أن النموذج الصيني يكاد يكون عصياً على الاتباع من معظم دول العالم لسببين رئيسين على الأقل:
الأول،أنه ليس من السهل تقليد الصين فيما فعلته. فمن جهة، لا تملك معظم دول العالم الإمكانات الجبارة التي استخدمتها الصين مالياً وطبياً وتقنياً وربما كادراً بشرياً والتي كان لها فضل كبير في الحد من انتشار المرض. ومن جهة أخرى، فإن طبيعة النظام الشمولي للصين واستخدام الجيش والقوة إن لزم في فرض العزل الصحي وحظر التجول وإغلاق إقليم ووهان قد أفادت كثيراً في استراتيجية المكافحة، وهو نظام مختلف تماماً عن معظم دول العالم وغير مرغوب به، كما أن التزام الصينيين الحديدي والتام بتعليمات نظامهم لن تتوفر على الأغلب لمعظم دول العالم الأخرى.
والثاني، أن الصين هي المصدر الوحيد لكل المعلومات المتعلقة بالأوضاع داخلها دون إمكانية التأكد من مصادر أخرى. يصعب تصديق كل ما يصدر عن نظام شمولي مثل الصين، خصوصاً وأنه من المتوقع سعيها لتبييض صفحتها وتسويق نموذجها وتعويض خسائرها الاقتصادية والمعنوية على حد سواء. صحيح أنه من الصعب إخفاء كل شيء– خصوصاً ادعاءات وجود ملايين الوفيات –في عالم اليوم، وصحيح أن الإجراءات الاستثنائية المبكرة في عزل إقليم ووهان كان لها أثرها البارز، لكن بكل الأحوال ينبغي التعامل مع تصريحات بكين والمعطيات الصادرة عنها بحذر.
ثمة كلام كثير كتب عن تأثيرت الجائحة على النظام الدولي من جهة وعلى بنية الدولة الوطنية/القومية الحديثة من جهة أخرى، مما يمكن الاتفاق مع جزء غير يسير منه والاختلاف في بعض المقاربات المتعلقة به. ولعله من المرجح فعلاً أن تخرج الصين كاسبة من هذه الأزمة العالمية بدرجة أو بأخرى إذا ما استمرت المعطيات فيها وفي الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية بنفس المنحى.
لكن فكرة أن النظم الشمولية ستكون أكثر رواجاً وستصبح النموذج المفضل للشعوب وما إلى ذلك قد يكون مبالغاً بها أو استنتاجاً مبكراً نوعاً ما. صحيح أن الكثير من الأنظمة ستسعى لاستغلال الحدث لزيادة سيطرتها وإحكام قبضتها على شعوبها، وأن أطيافاً من الشعوب قد لا تجد في ذلك غضاضة، وصحيح أن الإدارة المركزية للنظم الشمولية قد أفادت بطريقة أو بأخرى في مواجهة الفيروس بقوة وسرعة وحزم، إلا أن فرضية رواج النموذج وقبوله لا تبدو دقيقة فضلاً عن أن تكون حتمية.
من المهم كذلك الإشارة إلى أن التعامل مع الجائحة ليس المعيار الوحيد لتقييم الأنظمة والاقتناع أو التمثل بها. كما أنه من الواجب التنبيه إلى أن الحدث لم ينته بعد بالضرورة حتى في البلدان التي أعلنت عن ذلك، فما زال هناك احتمال لخروجه عن السيطرة مرة أخرى أو حدوث موجة ثانية منه بعد أشهر.
أكثر من ذلك، سيكون لكل دولة/نظام ما يمكن أن تسوقه لنفسها من معايير “النجاح” النسبية في مواجهة الجائحة، مثل تقليل أعداد الضحايا أو الشفافية في التعامل أو التكافل والتعاضد الوطني أو استفراغ كامل الجهد، أو غير ذلك.
ولعل الأهم من كل ما سبق أن هناك نماذج أخرى نجحت بشكل ملحوظ، على الأقل حتى اللحظة، في الحد من سرعة انتشار الوباء لديها و/أو تقليل أعداد الضحايا مثل كوريا الجنوبية واليابان ويمكن إضافة ألمانيا لهما. وهي دول لم تلجأ للقبضة الحديدية في فرض الحل وإنما استفادت من انضباط الشعب والتزامه بالتوصيات إضافة لكفاءتها في الوقاية والتشخيص والمتابعة والعلاج ورفع عدد الفحوصات المجراة بشكل كبير.
وبكل الأحوال، ثمة أهمية كبيرة للنقاشات الدائرة اليوم عن متغيرات “عالم ما بعد كورونا” وما ستفرضه تداعيات الحدث على الدول داخلياً وخارجياً. وقد يكون من أهم دروس الجائحة المستفادة والتي ينبغي أن يُعمل عليها مستقبلاً هو أهمية الإعداد والاستعداد لأزمات أو أوبئة محتملة مستقبلاً وفق سياسات تقدم صحة الإنسان وحياته على أولويات الاقتصاد الرأسمالي الأناني.