لا نضيف جديداً إذا ما أسهبنا في الحديث عن التوغل الإيراني في المنطقة العربية، وتصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين عن السيطرة على أربع عواصم عربية، وما إلى ذلك من خطاب وممارسات أججت مشاعر الغضب في الشارع العربي ضد طهران التي أصبحت بالنسبة للكثيرين في رأس قائمة المهددات للعالم العربي.
صحيح أن شيطنة إيران (وحزب الله من خلفها) كانت قد بدأت سنوات طويلة قبل الثورة السورية، لكنها لم تجد نفعاً حينها، بل كانت إيران تقود ما سمي حينها بمحور المقاومة أو الممانعة وكانت صور الأمين العام للحزب حسن نصرالله تملأ الكثير من البيوت على امتداد العالم العربي، كما تصدر الأخير قائمة الشخصيات السياسية المحبوبة في العالم العربي وفق استطلاع رأي أجرته مؤسسة زغبي لحساب جامعة ميرلاند عام 2006 (ونقلته الدكتورة فاطمة الصمادي في دراسة لها).
وخلال أقل من عشر سنوات على هذا الاستطلاع، بل أقل من ست سنوات على الثورة السورية، لا يصعب القول إن الصورة الذهنية عن إيران والحزب ونصر الله قد تغيرت بصورة دراماتيكية ولافتة، ولعل من أهم مؤشرات ذلك استطلاع الرأي الشهير للنخب العربية الذي أجراه مركز الجزيرة للدراسات بداية العام الحالي وأظهر أن %82 منهم يرون أن صورة إيران في العالم العربي “باتت أسوأ مما كانت عليه قبل بداية الثورات العربية”.
ليس من جديد في هذا الكلام، بل هو مما يلمسه كل متابع أو مهتم فضلاً عن الباحثين والسياسيين والنشطاء، بيد أن اللافت أن إيران مستمرة في سياستها وتغولها وتمددها رغم ما يمكن تسميته بحالة التجيش والتحشيد ضدها في العالم العربي، وهو ما يوجب إعادة النظر – ولو في عجالة تناسب المقال – في الاستراتيجيات (إن صح التعبير في هذه الحالة) المتبعة لمواجهة إيران وأهمها من وجهة نظري أربعة.
في المقام الأول ثمة اعتماد واضح على خطاب شعاراتي شعبوي مهاجم للنفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، سيما سوريا والعراق، يتوسل صفات ومصطلحات من عينة “المشروع الصهيوني – الأمريكي – الصفوي” أو “المجوس” أو “نظام الملالي المجوسي”، بغض النظر عن مدى بعد جزء مهم منه عن التوصيف العلمي الواقعي الصحيح، ومن المؤسف أن الكثير من الباحثين والسياسيين يقعون في هذا المطب.
وهناك خطاب عاطفي يلعب على وتر المشاعر المتأججة ضد طهران ويعتمد التحشيد المذهبي – الطائفي،مثل التعميم على كل الشيعة أو لصق كل نقيصة بهم أو استعدائهم بسبب المذهب (وليس بسبب الظلم) أو تعمد التحريف والتشويه عبر مواد إعلامية مضللة أو غير دقيقة، وهو خطاب تغذيه الجرائم المستمرة في أكثر من بلد عربي على يدالميليشيات الطائفية- الإيرانية والعربية – على أي حال.
وهناك مسعى رسمي عربي للوقوف ضد إيران في المنطقة ومواجهتها في أكثر من جبهة، سيما في اليمن، لكنها مواجهة تفتقد إلى رؤية واضحة واستراتيجية موحدة والتفاف كامل كما هو واضح، كما أنها لم تؤت حتى الآن ولو الحد الأدنى الذي يمكن أن ترضى به الدول التي تقودها.
وهناك، أخيراً ومؤخراً، تعويل على تغير الإدارة الأمريكية وآمال معلقة على بعض التصريحات التي أدلى بها الرئيس المنتخب دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية وفهم منها – من بعضها للدقة – رفضه للاتفاق النووي الموقع مع إيران ورغبته في تعديله و/أو التراجع عنه، وهو تعويل يمكن تلمسه في بعض الكتابات والمقالات بل والتصريحات السياسية الرسمية.
في التقييم، من الواضح أن هذه الاستراتيجيات – إن سلمنا جدلاً بهذه التسمية – لم تؤت أي ثمرة على مستوى كبح جماح طهران في المنطقة أو وقف تغولها. كما أن الرهان على تبدل سريع في الموقف الأمريكي من إيران وقضايا المنطقة مبالغ به ولا يقوم على أسس متينة كما أسلفت في مقالي الأسبوع الفائت. فكثير من التصريحات الشعبوية التي أطلقها ترامب خلال الحملة الانتخابية لن تتحول لسياسات ثابتة للبيت الأبيض، كما أن ما رسمه من معالم مبدئية لسياسته الخارجية سوف تنضبط بالمعايير والآراء والمحددات التي سيضعها المستشارون والمساعدون والمؤسسات الأمريكية المختلفة.
حتى في أعقد المشاكل السياسية والاقتصادية، لا ينبغي أن نفقد المنطق العملي البسيط، والذي يقول إن أولى خطوات حل أي مشكلة تكمن في الاعتراف بوجودها ابتداءً ثم تشخيص أسبابها، باعتبار أن الحل يدور حول معالجة هذه الأسباب. أما الاجتهاد في محاولات العلاج مع الإصرار على الأسباب المؤدية لتفاقم المشكلة فاتجاه يصب فيما حذر منه أينشتاين وفق الجملة الرائجة على لسانه (بغض النظر عن مدى صحة نسبتها إليه).
لقد تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة لعدة أسباب ظاهرة، في مقدمتها سير طهران منذ عشرات السنين (يمكن تأريخها منذ الثورة) وفق رؤية واضحة واستراتيجية محددة تدور حول مفهوم الريادة في العالم الإسلامي وتصدير الثورة، وهي رؤية استفادت من الثورات العربية وارتداداتها في تطبيق عملي لما قدمه البروفيسور أحمد داود أوغلو عن “النظرية الاستراتيجية” وعلاقتها بالتغيرات الإقليمية والدولية المهمة في كتابه “العمق الاستراتيجي”.
لقد سرعت إيران من خطى هذا المشروع بالاستفادة من الفراغ الحاصل في العالم العربي بسبب الصراعات البينية وحالة الفوضى والانقسام وتركيز عدد من الدول العربية المؤثرة على مواجهة “خطر” حركات الإسلام السياسي ودعمهم و/أو قيادتهم للثورة المضادة، وتغييب دور أقوى الدول العربية وأكثرها تأثيراً من خلال دعم انقلاب عسكري قتل الإنسان والاقتصاد والدولة والأرض في آن معاً، بينما ساهم التدخل العربي (والخارجي بشكل عام) في الثورة السورية في تشظي الثوار واقتتالهم البيني أكثر مما أفاد في توحيد صفوفهم والوصول إلى الأهداف التي خرجوا من أجلها.
إن الرغبة الصادقة الحقيقية في مواجهة طهران وإعادة شيء من التوازن إلى المنطقة يحقن دماء أبنائها ويؤسس لمستقبل من العيش المشترك على أساس الاحترام المتبادل لحرمة الدماء والبلادوالسيادة يتطلب وقفة مراجعة جادة للمرحلة السابقة من الجميع بلا استثناء، سيما الفاعلين المؤثرين. ثم هي تستوجب لاحقاً معالجة الأسباب الرئيسة التي أوصلت الحال إلى ما هي عليه اليوم، من خلال تغيير النظرة وتعديل السياسات ووقف حالة الصدام الداخلية وتوحيد الجهود في السياسة الإقليمية (وهو الأمر الذي ما زال غائباً رغم التغني به كثيراً).
أكثر من ذلك، تتطلب اللحظة التاريخية من الدول العربية والإقليمية الفاعلة حالة صدق وصراحة وتصالح مع الشعوب، والابتعاد عن الخطاب المذهبي وسياسة التأجيج الطائفي اللذين لا يفيدان إلا إيران وحالة التخويف التي تسعى لنشرها بين “الشيعة العرب” لضمان ولائهم وانضوائهم تحت راية مشروعها. كما يفترض أن تبنى “سياسات المواجهة” على أسس علمية عقلانية مبنية على فهم صحيح للاستراتيجية الإيرانية وأسس مشروعها وطريقة تفكيرها وعناصر قوتها، وهو محور أساسي يجب أن يستفيد من الدراسات العميقة والباحثين المجيدين المختصين في الشأن الإيراني، ولعلي أذكر على سبيل المثال في هذا المقام دراسة “إيران والثورات العربية: سرديات بناء المركزية الإيرانية” التي صدرت عن الباحثة الرصينة د. فاطمة الصمادي عن مركز الجزيرة للدراسات مؤخراً.
ولأن الدور الأهم في كل ذلك للدول والأنظمة، تقع المسؤولية الكبرى على هذه الأخيرة لتصحيح المسار – إن كانت صادقة فعلاً في توجهها – وترميم الجبهة الداخلية وتحديد البوصلة وتجنب الصراعات البينية واستعداء الشعوب وقواها الحية. أما الإصرار على نفس الرؤى والسياسات والخطاب الإعلامي وانتظار واقع مختلف أو نتائج إيجابية فليس إلا غرقاً في التحليل الرغبي والسياسات الحالمة التي لن تؤدي إلا إلى مزيد من التشظي والتراجع وإراقة الدماء وخسارة الأوطان، بينما تستمر إيران في تغولها وتـُمهـَّدُ الطريقُ أمام حرب طائفية لا تبقي في المنطقة ولا تذر، فيما يستمر المشروع الصهيوني – الرابح الأكبر من هذه الحالة – في المشاهدة ومراكمة الإنجازات واستثمار الفرصة التاريخية على أكمل وجه.