ربما لم تحظ مفردة سياسية في تاريخنا الحديث، وخاصة في بلداننا، بما حظيت به مفردة “العلمانية” من نقاش وجدال وأخذ ورد، استحال معهم الاتفاق أو التوافق على تعريف واحد وموحد للمصطلح. ذلك الاختلاف الذي تحول إلى خلاف حول معنى ودلالة المصطلح تحول إلى ما يشبه العقدة في التعامل في إطار المشهد السياسي بين العلمانيين من جهة والإسلاميين تحديداً من جهة أخرى، مما ألقى بظلاله على ملفات عدة في العالم العربي على رأسها الثورة والتنمية.
من الناحية العلمية واللغوية المحضة، نجد أن “العلمانية” ترجمة غير دقيقة، بل غير صحيحة لكلمة “Secularism” في الإنجليزية، أو “Secularite” أو “Lauque” بالفرنسية، وهي كلمة لا أصل لها بلفظ “العلم” ومشتقاته، على الإطلاق. أما الترجمة الصحيحة للكلمة فهي “اللادينية” أو “الدنيوية” (أو الترجمة الحرفية باللائكية)، لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى أخص، وهو ما لا صلة له بالدين أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد.
وسبب هذه الترجمة الخاطئة أن من تولوا الترجمة لم يفهموا من كلمتي “الدين” و”العلم” إلا ما يفهمه الغربي المسيحي منها. ذلك أن تيار العلمانية نشأ في القرون الوسطى التي شهدت حكم الكهنوت وتسلط الكنيسة على الحياة الاجتماعية في أوروبا، ومعارضتها الشديدة للعلم والعلماء، الذين اتهمت أكثرهم بالزندقة والتخريف، بل أعدمت وأحرقت بعضهم. ويتضح هذا المعنى المباشر للعلمانية مما أوردته المعاجم ودوائر المعارف الأجنبية المختلفة للكلمة.
وليس هذا ما يعنينا من موضوع العلمانية والعلمانيين، فكثير من التيارات السياسية والفكرية انتشرت في بلادنا ونقلت إليها بعد تجربتها في مواطنها الأصلية، ثم عدلت بما ينسجم بدرجة أو بأخرى مع واقعنا. ما يهمنا هنا هو حقيقة العلمانية في بلادنا اليوم، بعد تأكيد مبدأين رئيسين: الأول تطور العلمانية عبر الزمن، والثاني تعدد مفاهيم وممارسات العلمانية في البلاد المختلفة.
فمما لا شك فيه أن العلمانية نشأت لتحرير المجتمع وتحديداً العلم من سطوة الكنيسة (الدين) وإبعاد الأخيرة عن أي دور أو تأثير في المجتمع، بينما لا يؤمن بالضرورة كل علماني اليوم بهذا المبدأ، بل ربما يؤوله إلى “التمييز” بين ما هو سياسي وما هو ديني، أو بما يحقق الاستقلالية للعمل السياسي بعيداً عن هيمنة النص الديني، الذي يحفظه ويتقنه البعض دون البعض الآخر.
كما ان العلمانية ليست نمطاً ولا قالباً واحداً بل عدة علمانيات، ما بين العلمانية الفرنسية المتشددة والعلمانية البريطانية المتساهلة، وكل ما بينهما من ألوان الطيف. كما أنها تحمل تفسيرات عدة، مثل إبعاد الدين تماماً عن الحياة السياسية (كما في فرنسا)، والحفاظ على مسافة واحدة من كل الأديان والأقليات (كما في معظم الدول الأوروبية)، مروراً بالصيغة التي تخطت فصل الديني عن السياسي لتصل إلى “إخضاع” الديني للسياسي (في تركيا سابقاً على سبيل المثال).
هنا تبرز لنا عدة مفاهيم خاطئة يحسن سبر أغوارها قبل إصدار الأحكام الجزافية. فمن هذه المفاهيم أن العلمانية ديدن العصر الحاضر وقالب العلم الذي لا يقبل النقاش، حيث تتبعه وتطبقه “كل” الدول المتقدمة في عصرنا، بينما تقول الحقائق أن دولتين فقط في كل أوروبا ينص دستورهما صراحة على علمانية الدولة، هما فرنسا والبرتغال.
المفهوم الآخر الذي يجب تصحيحه، هو التطابق بين الديمقراطية والعلمانية الذي تحاول التيارات العلمانية في بلادنا الإيحاء به، بينما لا يقوم دليل واقعي ولا تاريخي على هكذا ادعاء. فهناك ديمقراطيات قامت بلا علمانية كمعظم الدول الأوروبية، وهناك علمانيات قامت بلا أدنى معايير الديمقراطية مثل تركيا والمكسيك.
المفهوم الثالث والأخير الذي يجدر بنا تحريره وتصحيحه، والذي يقع به بعض الإسلاميين، هو الحكم على العلمانيين بالكفر أو الردة، باعتبار ذلك من أمور العقيدة، مدفوعاً بالتصور أن كل علماني بالضرورة رافض لحكم الدين أو منكر لنصوص الشريعة. والحق أن العلمانيين ليسوا على قلب رجل واحد في هذا كما أسلفنا. ولئن ذكرنا أن العلمانية تعني “اللادينية” من حيث اللغة، فإن التطور التاريخي والمراحل التي مرت بها العلمانية (كما غيرها من التيارات الفكرية والسياسية الوافدة إلينا من الغرب) أدت اضطراراً إلى نوع من التكيف، وإلى تحول العلمانية من نظرية فكرية اعتقادية إلى رؤية سياسية ضمن الرؤى الموجودة. هنا ينبغي أن نضع في الحسبان القاعدة الأصولية التي تقرر أن الحكم على الشيء فرع من تصوره.
إن السبب الرئيس الذي دفع إلى كتابة هذا المقال بما فيه من تأصيل لغوي وتاريخي وواقعي، هو ما يعانيه العالم العربي والإسلامي من تشتت الجهود وتفرق الكلمة بين تياراته الرئيسة: الإسلامية والعلمانية والليبرالية (بغض النظر عن نسب التواجد والتأثير)، بما يؤخر التنمية فيها ويصعّب من إمكانات النجاح في غير ملف مهم. إن تربص هذه التيارات ببعضها البعض وانعدام الثقة بين أطرافها لهو السبب الرئيس ربما لما نشهده من كثير من الأزمات المعاصرة. حيث ما زال العلمانيون يطالبون الإسلاميين بما يطمئنهم لناحية الإيمان بالديمقراطية وضمان الحقوق الفردية وحقوق الأقليات، بينما يستاء الإسلاميون من رفض العلمانيين لهم وفكرتهم السلبية المسبقة عنهم، لدرجة قبول التحالف مع النظم الدكتاتورية أو الانقلابات العسكرية في مواجهتهم، كما حصل مؤخراً في مصر وغيرها من البلاد العربية.
إن تقدم العالم العربي وبناء مستقبله مرهون بتعاون قواه المجتمعية والسياسية الحية من مختلف أطيافها، بالاتفاق على الحد الأدنى من المبادئ التي تسير عليها البلاد، والتنسيق فيما بينها فيما خص الكثير من الملفات الحساسة، فطائر الوطن لا يطير بجناح واحد مهما كان كبيراً أو قوياً.
إن أول ما نحتاجه هو توافق هذه القوى الإسلامية والعلمانية والليبرالية ضمن تيار عام يقود الشعوب لنيل حقوقها وصياغة مستقبلها، منصرفاً عن المعارك الجانبية التي يجرنا إليها انعدام الثقة وسوء الظن والتربص، تيار أسماه المفكر المغربي محمد عابد الجابري “الكتلة التاريخية” وأطلق عليه المفكر المصري المستشار طارق البشري “التيار الأساسي للأمة”، بينما يفضل الكاتب الكبير الأستاذ فهمي هويدي أن يسميه “الجماعة الوطنية”. فهل نرى في المستقبل القريب هذا التيار متحققاً أم أن العوائق أمامه أكبر من أن تـُجتاز؟