عن التغييرات الأخيرة في قيادة الجيش التركي
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
يبدو الاهتمام بالتغيرات الأخيرة في قيادة الجيش التركي مبرراً من حيث المكان الخاص الذي تحتله المؤسسة العسكرية في تاريخ تركيا الحديث لأسباب عدة. فهناك اعتزاز الشعب التركي بجيشه وبتاريخه العسكري على مر الدول التي أسسها، ونظرة الجيش لنفسه كمؤسس للجمهورية التركية التي ورثت الدولة العثمانية والوصيّ المؤتمن عليها وعلى مبادئها، فضلاً عن تحكمه في الحياة السياسية التركية على مدى عقود طويلة تخللها أربع انقلابات عسكرية ومحاولة خامسة أخيرة فشلت العام الفائت.
هذا التحكم بدأ يضعف ويتراجع مع العدالة والتنمية الذي استفاد من مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي التي بدأت في 2005 وأطَّر دور الجيش في الحياة السياسية بشكل متدرج تحت عنوان المواءمة مع الشروط الأوروبية ومعايير كوبنهاجن. تغيرت على مراحل بنية ودور مجلس الأمن القومي الذراع الأقوى للجيش في الحياة السياسية التركية، فأصبحت قراراته بمثابة توصيات بعد أن كانت ملزمة للحكومة وباتت أغلبيته مدنية لا عسكرية بما في ذلك منصب السكرتير العام للمجلس. فضلاً عن تغيير المادة 35 من الدستور التركي الخاصة بمهام المؤسسة العسكرية والتي حصرتها بالدفاع عن البلاد ضد المخاطر الخارجية بعد أن كانت تشمل حماية مبادئ الجمهورية (خصوصاً العلمانية)، وهي تحديداً المادة التي استخدمها الجيش ذريعة في كل انقلاباته.
على مدى السنوات اللاحقة، مرت العلاقات المدنية – العسكرية في تركيا بأزمتين كبيرتين، الأولى قضيتا أرغنكون والمطرقة (وغيرهما) اللتان تتعلقان بخطط انقلابية من قبل ضباط في الجيش أدتا إلى محاكمة وإقصاء عدد كبير جداً من قيادات الجيش بما فيهم رئيس الأركان السابق إلكر باشبوغ الذي حكم عليه بالسجن المؤبد، قبل أن يتضح أن جزءاً مهماً من الأدلة كان ملفقاً من قبل الكيان الموازي لإحداث فراغ في قيادة الجيش استغلته جماعة كولن وملأته بكوادرها، وهو ما أفسد القضيتين وأبطلهما وأفضى إلى البراءة الجماعية فيهما لاحقاً.
والثانية أزمة استقالة أو طلب تقاعد من قبل رئيس أركان الجيش وقيادات القوات الجوية والبحرية والبرية عام 2011 قبيل اجتماع مجلس الشورى العسكري الأعلى بأيام، والتي تخطتها الحكومة في حينها سريعاً بتعيين رئيس جهاز الدرك (الجندرما) في حينها رئيساً للأركان.
بعد هذين الأزمتين، ومع الإنجازات السياسية والاقتصادية والإصلاحات التي قامت بها حكومات العدالة والتنمية منذ 2002، تراجعت مكانة المؤسسة العسكرية في مخيال الشعب التركي نسبياً وأظهرت استطلاعات الرأي لأول مرة تقدم الحكومة على الجيش كأكثر مؤسسة حائزة على ثقة الشعب، وهو أحد أهم العوامل التي غذّت فكرة صعوبة قيام المؤسسة العسكرية بانقلاب عسكري بعد 1997، والتي ثبت خطؤها عام 2016.
بالعودة إلى التغييرات التي طرأت على قيادة المؤسسة العسكرية التركية بعد اجتماع مجلس الشورى العسكري الأعلى يوم الأربعاء الفائت، يبدو الاهتمام به – مجدداً – مبرراً لكن يتضح أن الجدل الذي دار في الإعلام العربي تحديداً كان مبالغاً به وأكبر من ذلك الذي تداولته بعض وسائل الإعلام التركية نفسها. أولاً لأن التغييرات أتت خلال اجتماع الشورى العسكري الأعلى وهو اجتماع سنوي اعتيادي يعنى بعملية الترقيات والتقاعد في المؤسسة العسكرية بقيادة رئيس الوزراء وموافقة رئيس الجمهورية وفق الدستور التركي، وثانياً لأن بعض هذه التغييرات كانت متوقعة، خصوصاً أنها استـُقبت باجتماع ضم رؤساء الجمهورية والحكومة وأركان الجيش ووزير الدفاع، وهو ما يعني أن القرارات قد صدرت بالتوافق قدر الإمكان.
وكانت بنية مجلس الشورى العسكري الأعلى قد تغيرت بمرسوم رئاسي بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، ليتبع مباشرة وزارة الدفاع وتصبح غالبيته مدنية حيث يضم رئيسَ الحكومة وجميع نوابه ووزراء الدفاع والداخلية والخارجية والعدل إضافة لرئيس أركان الجيش وقادة القوات الجوية والبرية والبحرية، فيما ألحقت قيادة الدرك (الجندرما) بوزارة الداخلية، كما شارك في الاجتماع مستشار – مدني – من وزارة الدفاع بصفته سكرتيراً للمجلس.
ضمن قرارات اجتماع المجلس التي أعلنها الناطق باسم الرئاسة إبراهيم كالين، رُفِّع ستة لواءات/جنرالات وأميرالات لرتبة أعلى، و61 ضابطاً لرتبة لواء أو أميرال (لواء بحري)، ومُدِّد لـ 8 لواءات و168 ضابطاً، بينما أحيل للتقاعد 28 لواء وأميرالاً و107 ضباط بسبب حاجز العمر أو عدم وجود كوادر شاغرة.
بيد أن التغيير الأهم كان في قيادات القوات، حيث تغير قادة القوات الجوية والبرية والبحرية، بينما بقي رئيس الأركان خلوصي أكار ونائبه في منصبيهما، ويتضح من هذه التغييرات أن الانقلاب الفاشل ومكافحة الكيان الموازي قد فرضا نفسيهما على قرارات الشورى العسكري. فقائدا القوات الجوية والبرية الجديدان حسن كوتشوك ويشار غولر كانا قد اعتقلا ليلة الانقلاب إلى جانب رئيس الأركان أكار.
ويشار غولر تحديداً هو الاسم الأهم في قرارات الاجتماع، حيث كان انتقل من منصب النائب الثاني لرئيس الأركان إلى رئيس قوات الدرك العام الفائت بعد الانقلاب مباشرة، وأصبح اليوم قائداً للقوات البرية وأبرز المرشحين لقيادة أركان الجيش عام 2019، حيث تقضي تقاليد المؤسسة العسكرية بترفيع قائد القوات البرية لرئاسة الأركان.
وأما خلوصي أكار فيبدو أنه أبقي في رئاسة الأركان بسبب دوره الرافض للانقلاب العام الفائت، وأداء الجيش تحت إمرته خلال الفترة الماضية، ولثقة القيادة السياسية به، وحفاظاً على تماسك المؤسسة العسكرية ووحدتها سيما في ظل تغيير جميع قادة القوات، ولغياب البديل الجاهز والموثوق اليوم، وربما لأن بقاءه كرئيس أركان ضعيف نسبياً (بعد الانقلاب، واعتقاله ليلته) يضمن استقراراً أكثر في العلاقات المدنية – العسكرية وضماناً أكبر لعدم حدوث انقلاب جديد.
أخيراً، هل يعني كل ذلك أن السيطرة المدنية على الجيش التركي قد أحكمت تماماً؟ لا أعتقد، رغم أن كل المذكور أعلاه إضافة لفشل المحاولة الانقلابية يعني ضمانات أكبر وصعوبات أكثر أمام أي تفكير بانقلاب عسكري في البلاد. أولاً لأن منظومة الأفكار في مؤسسة كالجيش يصعب تغييرها خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً (15 عاماً)، وثانياً لأن العدالة والتنمية لا يملك كوادر وقيادات حقيقية في الجيش، وثالثاً لأن إزاحة المحسوبين على الكيان الموازي يستفيد منها التياران الرئيسان تقليدياً في الجيش أي القوميين والكماليين الذي قاموا بالانقلاب الأربعة السابقة، وأخيراً لأنه قد يظهر في قيادات الجيش من أي مستوى من يرى في كل ما حصل إهانة لمكانة الجيش وصورته وهيبته وبالتالي يحاول “رد اعتباره” على طريقته الخاصة، لا قدر الله.
في المحصلة، كانت قرارات مجلس الشورى العسكري الأعلى في تركيا قبل يومين متوقعة في معظمها، وتصب في خانة ضبط العلاقة المدنية – العسكرية إلى حد كبير، وشملت ترقية القيادات التي رفضت الانقلاب الفاشل العام الفائت، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنهم “رجال اردوغان” أو العدالة والتنمية بالشكل المتصور، وهو ما يعني أن ما حصل محطة مهمة لكن غير نهائية في تجربة العدالة والتنمية في تركيا فيما يتعلق بالعلاقة مع المؤسسة العسكرية تحديداً.