لم يكن أكثر الأكراد تفاؤلاً ليتوقع النتيجة التي حصل عليها حزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية التركية، حيث كان المعيار الذي يحسب الحزب على أساسه مدى نجاحه في الانتخابات هو تخطيه للعتبة الانتخابية (%10) لدخول البرلمان، بينما أظهرت النتائج النهائية غير الرسمية حصوله على أكثر من %13، بما يعني أنه سيتمثل في البرلمان بحوالي 80 نائباً، وهو رقم قياسي في تاريخ التمثيل الكردي.
تقليدياً، يتوزع الأكراد على الأحزاب التركية المختلفة بنسب متباينة، لكن تجمعهم الأكبر كان في الأحزاب الكردية اليسارية المقربة من حزب العمال الكردستاني، وآخرها حزب الشعوب الديمقراطي الذي يعتبر جناح الأخير السياسي. والحال كذلك، كان الأكراد يترشحون فردياً، لتخطي عقبة الحاجز الانتخابي، ثم يشكلون كتلة برلمانية فيما بعد الانتخابات.
تأسس الحزب ذو الجذور الكردية في تشرين الاول/أكتوبر 2012 وضم تحت مظلته معظم الكتلة البرلمانية الكردية، وأصبح ممثلاً بـ 27 نائباً، لكن عدداً من المتغيرات دفعته للمغامرة بخوض الانتخابات كقائمة حزبية وليس كأفراد مستقلين، في مقدمتها عملية السلام الداخلية التي فرضته لاعباً رئيساً وعظمت من دوره، وترشح رئيسه صلاح الدين دميرطاش للانتخابات الرئاسية وحصوله على ما يقرب من 10% من الأصوات.
ورغم كل ذلك، كان المتوقع للحزب – وفق معظم استطلاعات الرأي – أن يحصل على أقل أو أعلى قليلاً من نسبة %10 المطلوبة لدخول البرلمان. لكن عدداً من الأسباب أدى إلى نجاحه غير المتوقع وغير المسبوق هذا، أهمها:
أولاً، كانت هذه الانتخابات “تصويتاً للهوية” بامتياز، وضعت أربعة أحزاب من الأيديولوجيات الرئيسة في البلاد تحت قبة البرلمان، ولم تسمح حتى للمستقلين بالتواجد فيه، وهذا النوع من التصويت يخدم في الأصل الأقليات أو الأحزاب المهمشة.
ثانياً، أوضحت نتائج الانتخابات – وقبلها بعض التحليلات – أن “الإسلاميين الأكراد” انتقلوا من دعم العدالة والتنمية (الذي كان مدافعاً قوياً عن الحقوق الكردية) إلى الشعوب الديمقراطي، ولذلك أسباب عدة في مقدمتها تقديم الهوية الكردية على سواها من الاعتبارات، والغضب من بعض مواقف وتصريحات اردوغان والحكومة حول القضية الكردية، وعدم الرضا عن قوائم مرشحي العدالة والتنمية في المناطق الكردية. وقد أدى ذلك إلى تراجع ملحوظ للعدالة والتنمية في جنوب شرق البلاد، حيث تراجع عدد نوابه في دياربكر أكبر المدن الكردية من 5 إلى 1 (من %32 إلى %13.99)، وفي فان من 4 إلى 1 (من %40 إلى %23)، في حين حصل الشعوب الديمقراطي على 10 (%79.05) و 5 (%73) مقاعد على التوالي.
ثالثاً، نجح الشعوب الديمقراطي مؤخراً في مغازلة مخيال أطياف واسعة من الشعب التركي، سيما الأكراد واليساريين والنساء، من خلال تغيير لغة خطابه ورؤيته السياسية، مقدماً نفسه لأول مرة على أنه “حزب كل تركيا” وليس الحزب الممثل للأكراد فقط، وهذا ما أعطاه دفعة قوية في الانتخابات.
رابعاً، حصل الحزب على دعم سياسي وإعلامي – علني وسري – غير مسبوق لضمان تخطيه العتبة الانتخابية باعتبار ذلك أضمن وأنجع الطرق لقطع الطريق على حصول الحزب الحاكم على الأغلبية، وقد استثمر الحزب هذه النقطة تحديداً على نطاق واسع حين أكد في حملته الانتخابية على أن الحسابات الرياضية تقول بوضوح أن من أراد أن يعاقب العدالة والتنمية أو يحد من طموحه في تغيير نظام البلاد السياسي إلى نظام رئاسي فعليه أن يدعم الشعوب الديمقراطي دون غيره. وهو ما يشير إلى النتيجة الكبيرة التي حصل عليها الحزب ليست كلها أصوات مناصريه، بل أصوات معارضي العدالة والتنمية، وهي ما اعتبرها دميرطاش في كلته بعد الانتخابات “أصوات أمانة” وعد بالحفاظ عليها.
خامساً، ساهمت الأحداث الأمنية من تفجيرات واعتداءات على مراكز الحزب إضافة إلى حدة الخطاب الإعلامي بينه وبين العدالة والتنمية (والرئيس اردوغان) في إذكاء “سيكولوجيا الأقليات” والتفاف أفضل من الأكراد تحديداً حوله، وإقناع المترددين بالتوجه لصناديق الاقتراع.
وهكذا أصبح الحزب فجأة قوة لا يمكن تجاهلها في البرلمان، وهو ما يمكن اعتباره فرصة ذهبية لتعميق دمج الأكراد في الحياة السياسية التركية وتقوية ثقتهم بالعمل السياسي وحل المشكلة الكردية من خلاله سلمياً. لكن الحزب سارع بشكل مفاجئ إلى التأكيد على رفضه التحالف مع العدالة والتنمية في أي حكومة ائتلافية (بعد أن كان المرشح الأبرز لذلك لعدة أسباب) وتفضيله البقاء في صفوف المعارضة، وبذلك فهو يخاطر بدفع البلاد إلى انتخابات مبكرة ربما لا يحصل فيها على نفس النسبة بعدما فاجأت نتائجه – بل وربما أزعجت – الكثيرين، حتى من بين من دعموه، باعتبار أنهم أرادوه حائط سد فقط أمام العدالة والتنمية وليس لاعباً قوياً في الساحة قد يخرج عن السيطرة.