عملية عفرين: ذروة التوتر بين أنقرة وواشنطن
الجزيرة نت
أثار الإعلان عن نية التحالف الدولي إنشاء وتدريب قوة لحرس الحدود في سوريا، تتشكل من قوات سوريا الديمقراطية ويمكن أن يصل تعدادها إلى 30 ألفاً، ردود فعل غاضبة ورافضة من كل من النظام السوري وإيران وروسيا، إلا أن ردة الفعل الأكثر حدة جاءت من تركيا كما كان متوقعاً.
ذلك أن التصريح المنقول عن الجنرال جوزيف فوتيل قائد القيادة الأمريكية الوسطى نهاية الشهر الفائت ذكّى هواجس أنقرة بخصوص وحدة الأراضي السورية ومشروع الدويلة الكردية الذي تعتبره خطاً أحمر لا يمكنها السماح به، وأضاف للأزمات المتراكمة مؤخراً مع واشنطن.
التوتر التركي – الأمريكي
منذ تسلم العدالة والتنمية الحكم في تركيا، تعاني العلاقات التركية – الأمريكية من أزمات من وقت لآخر مردها إلى تغير طبيعة العلاقة بعد انتهاء الحرب الباردة وتبدل نظرة تركيا لمكانتها ودورها في الإقليم والعالم. إذ لا يبدو أن واشنطن تتفهم المتغيرات على الطرف التركي أو تقبل برغبة أنقرة في ندية العلاقات واستقلالية قرار سياستها الخارجية.
اليوم، لم يعد ما يحكم العلاقة تبعية أنقرة لواشنطن خلال الحرب الباردة، ولا الشراكة الاستراتيجية المعلنة في 1995، ولا الشراكة النموذجية والحديث عن “النموذج التركي” على لسان أوباما، بل التوتر الدائم والأزمات المتفاقمة، وأهمها:
أولاً، رفض الولايات المتحدة تسليم تركيا فتح الله كولن المتهم الأول في المحاولة الانقلابية الفاشلة صيف 2016، ومماطلتها في التعاون في ملف التحقيق معه.
ثانياً، الدعم الأمريكي المستمر والمتزايد للفصائل الكردية المسلحة في سوريا والمصنفة على قوائم الإرهاب التركية.
ثالثاً، قضية رضا ضراب، رجل الأعمال التركي من أصل إيراني، والتي تسير نحو إدانة مسؤول كبير في مصرف حكومي تركي وترى فيها أنقرة مؤامرة لاستهدافها اقتصادياً.
رابعاً، الموقف التركي المتقدم في مواجهة قرار ترمب بخصوص القدس.
خامساً، عدد من الأزمات الفرعية الأقل حجماً وتأثيراً، مثل التحقيق مع الحرس الشخصي للرئيس التركي في الولايات المتحدة.
أدت هذه الأزمات وغيرها، لا سيما مواقف حلفاء تركيا الأطلسيين خلال وبعد الانقلاب الفاشل، إلى اقترابها أكثر من روسيا التي نسجت معها تفاهمات ومسيرة تعاون في القضية السورية ووقعت معها صفقة إس 400 الدفاعية ذات البعد الاستراتيجي.
يبقى ملف التوتر الأكبر والأخطر بين تركيا والولايات المتحدة هو دعم الأخيرة للفصائل الكردية المسلحة في سوريا، وهو دعم معلن وواضح ومستمر أوصلها إلى مصاف جيش نظامي يقدّر عدد أفراده بعشرات الآلاف.
ترى واشنطن في حزب الاتحاد الديمقراطي PYD حليفاً محلياً في مواجهة تنظيم الدولة – داعش، وقوة أثبتت نفسها في مواجهة التنظيم منذ معركة عين العرب/كوباني في 2014، التي خاضتها ذراعه العسكرية وحدات حماية الشعب YPG ضد التنظيم.
الدعم الأمريكي للحزب وامتداداته يبدو مستقراً ومستمراً وشاملاً للجوانب السياسية والمالية والعسكرية والإعلامية، بما في ذلك إمداده بكميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وتدريب عناصره. الغطاء الأمريكي للحزب وعناصره شمل الجانب السياسي – الإعلامي بتغيير اسم وحدات الحماية إلى قوات سوريا الديمقراطية SDF بعد ضم بعض العناصر الأخرى، والجانب العسكري الذي شمل إبقاء عناصره في منبج بعد إخراج داعش منها وحمايتهم من القوات التركية.
كما تشكل الفصائل الكردية المسلحة غطاء للوجود العسكري الأمريكي في سوريا على شكل قواعد عسكرية في مناطق سيطرتها شرق الفرات، ويبدو بالنسبة للكثيرين أن ذلك جزء من رؤيتها للحل في سوريا عبر التقسيم أو الفدرلة.
تحالف على المحك
بالنسبة لتركيا، فحزب الاتحاد الديمقراطي هو الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني PKK الانفصالي والمصنف منظمة إرهابية بسبب الحرب التي يخوضها ضدها منذ 1984. تبعية حزب الاتحاد للعمال الكردستاني ليس مجرد ادعاء تركي، بل تؤكدها عدة تقارير دولية أهمها تقرير “مركز التميز للدفاع ضد الهجمات الإرهابية” التابع للناتو في 2016. كما أن الحزب متهم في الضلوع في بعض الهجمات الانتحارية داخل تركيا، والتي أصدرت أنقرة إثر إحداها مذكرة توقيف بحق رئيسه صالح مسلم نهاية 2016.
المشروع السياسي لحزب الاتحاد والمتمثل بدويلة في شمال سوريا تعتبره أنقرة التهديد الأكبر لها وتضع مواجهته وتقويض إمكاناته في رأس قائمة أولوياتها، بما في ذلك عملية درع الفرات التي نفذتها بين آب/أغسطس 2016 وآذار/مارس 2017 لمنع التواصل الجغرافي بين كانتوناته الشرقية والغربية.
عملية درع الفرات كانت “خنجراً في قلب المشروع” وفق تعبير الرئيس التركي، لكنها لم تعن وأده تماماً، ولذلك تهدد أنقرة منذ أشهر بعملية وشيكة ضد الحزب في عفرين شمال غربي سوريا.
تتناول وسائل الإعلام التركية أخبار العملية المفترضة في عفرين منذ أشهر تحت اسم “سيف الفرات”، ما يوحي بصفتها الهجومية مقابل الصفة الدفاعية لدرع الفرات، لكن ساعة الصفر لم تعلن يوماً.
عقدة أنقرة الرئيسة في عفرين هي التواجد العسكري الروسي في المنطقة، بما يجعل التنسيق مع موسكو ضرورة قبل بدء أي تحرك تركي. ولذلك يعزو الكثير من المراقبين تأخر عملية عفرين إلى غياب الموافقة الروسية حتى وقت قريب، سيما وأن التفاهمات الروسية – التركية في سوريا لم تسر على الملف الكردي، إذ تمتنع روسيا عن وضع العمال الكردستاني على قوائم الإرهاب، وتستضيف مكتباً لحزب الاتحاد الديمقراطي على أراضيها، وتصر على إشراكه في مؤتمر سوتشي للحوار الوطني السوري.
الخطة الأمريكية بتشكيل حرس حدود من قوات سوريا الديمقراطية وضعت على ما يبدو الخطة التركية بخصوص عفرين على سكة التفعيل. صرح اردوغان أكثر من مرة بأن العملية باتت وشيكة جداً، وأرسلت أنقرة المزيد من التعزيزات العسكرية إلى الحدود، بل وقصفت القوات المسلحة التركية مواقع في عفرين بالمدفعية.
ترى تركيا نفسها مستهدفة بالخطط الأمريكية التي تقوّض وحدة الأراضي السورية عبر التقسيم أو الفدرلة، وتسعى لإنشاء كيان سياسي لحزب مصنف على قوائم الإرهاب وذي علاقة عضوية بالعمال الكردستاني. يعني ذلك أن أي كيان مفترض بقيادة هذا الحزب سيكون معادياً لها وحاجزاً بينها وبين سوريا والعالم العربي وأرضاً لتدريب الكردستاني وانطلاق عملياته نحو الأراضي التركية، فضلاً عن التعقيدات المتوقعة على الملف الكردي داخل تركيا.
سيناريوهات عفرين
يمكن القول إن عملية عفرين قد بدأت فعلاً قبل أشهر، بمرحلة تمهيدية تضمنت نشر قوات تركية في إدلب ضمن اتفاق مناطق خفض التصعيد، بما أمكنها من حصار عفرين من الجنوب ومنع تسلسل مسلحي العمال الكردستاني عبر البحر المتوسط. واليوم، يبدو القصف المدفعي التركي مرحلة ثانية يمكن اعتبارها مقدمة لعملية فعلية أوسع تستعد لها أنقرة.
أعلن اردوغان أن العملية الوشيكة ستقوم بها القوات المسلحة التركية بمساعدة مجموعات من المعارضة السورية، تماماً كما حصل في درع الفرات، ما يؤمن لها مشروعية تريدها إضافة للتنسيق مع الأطراف الفاعلة وخصوصاً روسيا. وفي حين أعلن اردوغان أن الاتصالات مع الرئيس الروسي مستمرة، فقد اكد أنه لن يبادر للاتصال بنظيره الأمريكي. وهو تصريح ينسجم مع عدة تصريحات تركية غاضبة من واشنطن ومحذرة لها في آنٍ معاً من “اللعب بالنار” أو “إدامة دعمها للمنظمات الإرهابية” خلال العملية التركية.
السيناريوهات المطروحة بخصوص عفرين كثيرة، لكن يمكن تلخيصها في اثنين رئيسين:
الأول، عملية واسعة تهدف لتقويض سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي على عفرين تماماً، أي عملية شبيهة بدرع الفرات من حيث الإعداد والمراحل والتدرج واشتراك عدة فرق من مختلف الاختصاصات في الجيش التركي إضافة لمجموعات السوري الحر.
الثاني، عملية محدودة تنتزع بعض المناطق من الحزب وتحاصره في منطقة جغرافية أضيق بما يقلل من خطره على حدودها وينهي إمكانية اتصاله لاحقاً بالكانتونات الشرقية جغرافياً، فضلاً عن وصوله لمياه المتوسط.
ثمة تحديات كثيرة أمام الخطة التركية المفترضة، أولها اختلاف تضاريس عفرين عن مناطق درع الفرات حيث تبدو أكثر وعورة وتعقيداً، وعدم اطمئنان أنقرة لمواقف موسكو وواشنطن على المدى البعيد، وتواجد القوات الأمريكية في منبج بما قد يتسبب باحتكاك مباشر معها، واحتمالات تسليم الحزب عفرين للنظام، والارتدادات المحتملة على الداخل التركي، فضلاً عن سيناريو التورط والاستنزاف الذي لا تريد تركيا الوقوع في فخاخه.
وبمنظور أشمل من خصوصية عفرين، فإن مساحات المناورة التركية في سوريا تبدو أضيق اليوم نسبياً من السابق، في ظل قصف إدلب من قبل موسكو والنظام وانعكاسات ذلك على الإطار الثلاثي الضامن لوقف إطلاق النار. من جهة أخرى، فإن إمكانات تركيا في عملية عفرين لا تنطبق على منبج المحميّة أمريكياً، ولا تمنحها حلولاً مثلاً للمناطق الواسعة التي تسيطر عليها الفصائل الكردية المدعومة أمريكياً شرق الفرات، بما يجعل سيناريوهات التقسيم والفدرلة حاضرة ومحتملة دائماً رغم معارضة أنقرة.
أخيراً، فإن التصريحات التي نقلتها وكالة الأناضول للأنباء عن الناطق باسم التحالف الدولي ريان ديلون بأن التحالف لا ينوي دعم PYD في عفرين باعتبارها منطقة خارج اهتمامه واختصاصه، قد تفهم على أنها ضوء أخضر أمريكي للعملية التركية وتخلٍّ من واشنطن عن حلفائها. لكنها أيضاً قد تندرج ضمن سيناريو التشجيع والاستدراج لتوريط تركيا في عملية عسكرية تبدأها هي، لكن قد لا تسيطر على مراحل تطورها ونتائجها النهائية، ما يعني أننا أمام منعطف خطير مفتوح على عدة سيناريوهات وله تداعياته على الملف السوري عموماً والعلاقات التركية – الأمريكية بشكل أخص.