عبدالله غل: الغائب الحاضر في الانتخابات التركية
بات في حكم المؤكد أن تبكّر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية من موعدها في حزيران/ يونيو المقبل إلى الرابع عشر من أيار/ مايو، وقد أكدت ذلك تصريحاتُ الرئيس التركي بأن تبكير الانتخابات سيكون بقرار رئاسي يصدر في 10 آذار/ مارس المقبل وفق الصلاحيات التي يمنحها إياه الدستور.
ويعني ذلك ضمن ما يعنيه أن البلاد قد دخلت بشكل كامل في أجواء الانتخابات التي تبقّى لها هكذا أقل من أربعة أشهر، كما تعني ضرورة حسم المعارضة التركية وخصوصاً “الطاولة السداسية” قرارها بخصوص مرشحها أو مرشحيها للرئاسة سريعاً، وهو القرار الذي تأخر كثيراً وما زال يلفه الغموض المدفوع بخلافات واضحة بين أركان الطاولة.
إحدى أكبر مشاكل المعارضة التركية وخصوصاً الطاولة السداسية أنها تحتاج مرشحاً توافقياً تتجند كلها خلفه ليكون منافساً قوياً لأردوغان، لكنها -وللمفارقة- تأتي من خلفيات فكرية وأيديولوجية وسياسية مختلفة وأحياناً متناقضة، فضلاً عن ضعف الثقة فيما بينها والخلافات التاريخية بين بعض أعضائها. ولذلك تسود حالة من التنافس بدل التعاون بينها في مسألة المرشح التوافقي، على مستوى الأحزاب بين الشعب الجمهوري والجيد، وعلى مستوى الأشخاص بين رئيس الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو ورئيس بلدية إسطنبول الكبرى (من نفس الحزب) أكرم إمام أوغلو، فضلاً عن آخرين.
المواصفات الرئيسة التي تحتاجها المعارضة في المرشح التوافقي المفترض، وكما ورد على ألسنة بعض قياداتها سابقاً، أن يكون مرشحاً قادراً على منافسة أردوغان والفوز عليه. أي أن يكون شخصية قادرة على إقناع شرائح متعددة من الناخبين بالتصويت له، وأن يكون له تحديداً القدرة على السحب من خزان أردوغان والعدالة والتنمية الانتخابي، وله خبرة في إدارة الدولة، وأن يحصل على دعم أحزاب الطاولة السداسية وغيرها لو أمكن.
ولعل الأهم في كل ما سبق هي معضلة الجمع بين معيارَيْن متناقضين ظاهرياً. فمرشح الطاولة السداسية التوافقي سيكون على الأغلب من حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة وأوسعها من حيث القاعدة التصويتية، ولكن ذلك أدعى ألا يحصل على أصوات مناصري أردوغان ومصوّتيه التقليديين. ولذلك ذهبت بعض الخيارات إلى شخصيات “ليست على خصومة” مع الشريحة المحافظة، مثل رئيسَيْ بلدية إسطنبول وأنقرة أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش، ولنفس السبب يرى الكثيرون أن زعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهوري كليتشدار أوغلو يملك فرصة أقل للفوز.
وبالنظر للمعايير السابقة وتشابكاتها وتعقيداتها، يمكن القول إن الرئيس الأسبق عبد الله غل يبدو خياراً منطقياً ومثالياً للمعارضة، لكنه غائب تقريباً عن مباحثات الطاولة السداسية، العلنية منها على أقل تقدير.
فالرجل له باع طويل في السياسة كرجل دولة من الطراز الأول، وشغل مناصب رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية ورئاسة الدولة، وقادر على الحصول على أصوات من شرائح مختلفة بمن فيهم المحافظون والقوميون والأكراد، وله احترامه بين صفوف أنصار العدالة والتنمية، ضمن معايير وميزات إضافية أخرى تدركها جميع الأطراف عنه.
ففي عام 2014، حين كان أردوغان يستعد لترك رئاسة الحزب الحاكم والحكومة للترشح للانتخابات الرئاسية وخلال رحلة البحث عن خليفته، منحته الاستشاراتُ داخل الحزب الحاكم حينها المرتبة الأولى، لكن خيار أردوغان ذهب لداود أوغلو. وفي 2018، كان هناك توجه لدى تحالف الأمة المعارضة بقيادة حزب الشعب الجمهوري لتقديم غل كمرشح توافقي للمعارضة، من باب أنه الشخص الأقدر على منافسة أردوغان، لكن اللافت أن الطرفين المتنافسين لم يريدا ذلك.
فإن كان أردوغان عمل على إقناع رفيق دربه بعدم الترشح مرسلاً له مستشاره والناطق باسم الرئاسة إبراهيم كالين ورئيس أركان الجيش في حينه (وزير الدفاع الحالي) خلوصي أكار، فإن قيادات في الشعب الجمهوري رفضت ترشيح غل من باب أنه “ليس هناك خلاف كبير بينه وبين أردوغان، وهما وجهان لعملة واحدة”، بينما فضّلت ميرال أكشنار، رئيسة الحزب الجيد، ترشيح نفسها للرئاسة، ناسفة فكرة المرشح التوافقي للتحالف المعارض.
ورغم كل ذلك، لا يتصدر اسم غل نقاشات المعارضة ولا نتائج استطلاعات الرأي، حيث تركز الأخيرة بشكل كبير على الشخصيات الثلاث في الشعب الجمهوري (كليتشدار أوغلو وإمام أوغلو ويافاش)، وتستبعد الآخرين. ذلك أن الشعب الجمهوري يرى أنه أمام فرصة غير مسبوقة لمنافسة أردوغان وإمكانية الفوز بما لا يقارن مع أي منافسة انتخابية سابقة، بما في ذلك انتخابات 2018. وهو ما يفسر إصرار كليتشدار أوغلو على ترشيح نفسه رغم معارضة حلفائه وخصوصاً الحزب الجيد، وكذلك المنافسة الداخلية في الحزب نفسه بينه وبين إمام أوغلو الذي ما زال يلمح إلى إمكانية ترشحه.
ولا شك أن غل نفسه لن يعارض تقديمه كمرشح توافقي للمعارضة، إذ كان بصدد ذلك في 2018 وأوضاع المعارضة أسوأ وفرص أردوغان أفضل بكثير، فكيف اليوم؟!!
فهل ما زال ثمة فرصة لترشح أو ترشيح الرئيس الأسبق؟ هناك ثلاثة سيناريوهات ممكنة للأمر:
إذ هناك احتمال أن تتبناه الطاولة السداسية مرشحاً توافقياً لها، اقتناعاً بفرصه في الفوز أو خروجاً من الخلافات الداخلية والتنافس البيني، لكنه احتمال ضعيف في ظل تقييم الشعب الجمهوري للانتخابات المقبلة وفرص مرشحه للفوز بها، فضلاً عن أنه لن يكون رئيساً طيّعاً لأحزاب الطاولة السداسية إن فاز.
وهناك، نظرياً، احتمالية أن يقدم الرجل نفسه كمرشح مستقل بعيداً عن دعم أحزاب بعينها، لكنه أيضاً احتمال غير مرجح بالنظر لشخصية غل وتجاربه السابقة مع الانتخابات.
ورغم ذلك، قد يكون أمام الرجل فرصة للترشح عن أحد أو بعض أحزاب المعارضة، لا سيما في حال تعقُّدِ الخلافات بين أطراف الطاولة السداسية وانفضاضها أو ذهابها لخيار تقديم عدة مرشحين وإرجاء التنسيق/ التفاوض/ الاتفاق بينها لجولة الإعادة إن حصلت. وهنا، من الممكن لأحزاب مثل السعادة والمستقبل والديمقراطية والتقدم أن تتفق على ترشيحه في حال لم توافق على دعم مرشح الشعب الجمهوري لأي سبب، وقد يحصل حينها على دعم أحزاب أخرى من الأحزاب المحافظة و/أو القومية.
ختاماً، تبقى فرصة الرئيس الأسبق عبد الله غل في الترشح وفق المعطيات الحالية وتوجهات المعارضة وخصوصاً أحزاب الطاولة السداسية محدودة جداً. لكنه، ورغم ذلك، يبقى خياراً ممكناً ومنقذاً في حال وصلت المعارضة لطريق مسدود للتوافق على غيره. وبالتالي، وبالنظر لفرصه في المنافسة والفوز، سيبقى حاضراً في حديث الانتخابات وإن غاب اسمه عن النقاشات العلنية حتى لحظة إغلاق باب الترشح من قبل اللجنة العليا للانتخابات.