بغض النظر عن نتائجها العسكرية والميدانية على المديين القريب والبعيد، إلا أن عملية “عاصفة الحزم” تبدو مفصلية ومهمة من الناحيتين السياسية والاستراتيجية، على الأقل لجهة خلطها أوراق المنطقة وإعادة تشكيل تحالفاتها ومحاورها.
تبدل المحاور
تقليدياً، كانت المنطقة مقسمة بين محورين، محور الاعتدال الذي ضم مصر والسعودية وبعض دول الخليج والأردن، ومحور الممانعة الذي ضم إيران وسوريا وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين وضم له أحياناً تركيا وقطر في بعض الفترات.
لكن ثورات الربيع العربي التي هبت في بعض دول هذين المحورين غيرت الخريطة تماماً، حيث خرجت مصر بعض ثورتها من محور الاعتدال بينما انفرط عقد محور الممانعة – أو هكذا بدا – إثر الخلاف حول الموقف من الثورة السورية. أكثر من ذلك، تغيرت المواقع سريعاً مع الثورة المضادة في هذه الدول، بطريقة أعادت الاصطفاف على أساس الموقف من الثورات، فأصبحت كل من سوريا وإيران أقرب إلى محور الاعتدال السابق، بينما أضحت قطر وتركيا محسوبتين على محور قوى الثورات العربية.
عاصفة الحزم
بيد أن ما لم تحسبه الكثير من الدول العربية هو أن وقوفها ضد الثورات وقواها المحركة لها في غير بلد عربي ترك فراغاً استراتيجياً ملأه طرفان: إيران ومشروعها التوسعي في المنطقة، والقوى “الجهادية” وخاصة في سوريا والعراق ثم اليمن.
فجأة، استفاق العالم العربي على حالة من السيولة والتراجع غير المسبوقين أمام هذين المشروعين، وخاصة جماعة الحوثيين في اليمن، التي دعموها وسمحوا لها سابقاً بالتمدد في اليمن لضرب حزب الإصلاح، فتخطت الدور المرسوم لها وسيطرت على العاصمة ثم توجهت جنوباً، في تهديد واضح للحدود السعودية ومضيق باب المندب ذي الأهمية الدولية الاستراتيجية، وسط حديث بعض القيادات الإيرانية البارزة عن سيطرتها على العاصمة العربية الرابعة بعد بغداد ودمشق وبيروت.
حقاقئق الجيوبوليتيك دفعت بالسعودية إلى التحرك الفوري، باعتبار اليمن حديقتها الخلفية وعمقها الاستراتيجي، لكنه لم يكن تحركاً فردياً، بل كان يتوجب أن يكون جماعياً وسريعاً ومفاجئاً، فكان التحالف العشري من دول الخليج (ما عدا عمان) وبعض الدول العربية الأخرى، بينما دعمت العملية سياسياً كلٌّ من تركيا وباكستان، وهو ما دفع الكثيرين للتحدث عن “تحالف سني” في مواجهة المشروع الإيراني.
ورغم أن الأمر لا يخلو من مبالغة، حيث إن التحالف سياسي بامتياز وأسبابه استراتيجية أكثر منها طائفية وأهدافه سياسية قبل أن تكون عسكرية بحتة، إلا أن التحالف العشري وارتداداته أعادت مرة أخرى خلط الأوراق ليبدأ الحديث عن اصطفافات جديدة ومحاور مستحدثة في المنطقة.
التغيير في السعودية
لكن الحقيقة أن التغيير لم يبدأ تماماً في لحظة عاصفة الحزم، بل كان سابقاً عليها بأشهر. فمع تولي الملك سلمان الحكم، لاحت بعض الإشارات على تغير ما في السياسة الخارجية السعودية، تبدت في ضعف تحالفها الوثيق السابق مع كل من الإمارات ومصر، بينما سرى بعض الدفء في العلاقات مع تركيا.
لقد حرص الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على حضور جنازة الملك عبدالله حتى قبل أن توجه له دعوة، بينما ألقى وزير الداخلية التركي محاضرة في جدة، التي فسحت المجال لعرض فرقاطة تركية في معرضها، وكانت تلك ثلاثة أحداث في فترة زمنية قصيرة أوحت بتغير ما، بعد سنوات من الجمود بين أنقرة والرياض على خلفية الاختلاف في الموقف من الربيع العربي، وتحديداً الانقلاب في مصر.
ومع زيارة اردوغان الثانية إلى السعودية والاحتفاء الواضح بها من الرياض، ثم زيارة ولي ولي العهد السعودي لأنقرة قبل ساعات فقط من زيارة اردوغان لإيران، بات واضحاً أن فترة جديدة من العلاقات بين العاصمتين الإقليميتين الأهم – في غياب القاهرة – قد بدأت، وأن ذلك يوحي بالتعاون والتنسيق في ملفات المنطقة المختلفة، وخصوصاً سوريا والعراق، وربما مصر.
هذا التقارب أتى بأكله فعلاً في الموقف من عاصفة الحزم، حيث أيدتها تركيا خلال ساعات وقالت أن الرياض أخطرتها مسبقاً بها، متهمة الحوثيين بالانقلاب على شرعية الرئيس اليمني، ومطالبة “راعيها الإقليمي” بسحب دعمه لها، بعد أن أبدت تفهمها للدوافع السعودية وعبرت عن الإنزعاج الخليجي والتركي من السياسات الإيرانية.
تركيا والباكستان
ويبدو أن تركيا كان لها أيضاً دوافعها من هذا التأييد والموقف ذي السقف العالي. فتمدد إيران في الإقليم لم يكن تمدداً في الفراغ، بل أضر أكثر ما أضر بدور تركيا ومصالحها، لكن الاستياء التركي لم يكن يتجاوز التصريحات الدبلماسية والدعوات للحوار والتواصل، في ظل نظريات “تصفير المشاكل” والتواصل مع دول الجوار، وتحت سيف الاعتماد على مصادر الطاقة الإيرانية وضعف القوة الناعمة التركية في مواجهة أذرع طهران الخشنة.
هكذا، وجدت أنقرة في عاصفة الحزم ضالتها، فاستثمرت اللحظة في الضغط على طهران سياسياً، حيث سمعنا لأول مرة انتقاداً تركياً “للتمدد الشيعي” في المنطقة على لسان رئيس البرلمان جميل جيجك، بينما دعا اردوغان إيران صراحة إلى سحب قواتها من اليمن وسوريا والعراق والكف عن تهديد الأمن والسلام في المنطقة.
ولئن كان التحالف العشري فرصة لمواجهة جماعية مع تمظهرات التمدد الإيراني في الخليج، فإن دعم تركيا وباكستان له يمثل ثقلاً استراتيجياً لا يمكن إغفاله. ورغم رفض البرلمان الباكستاني مشاركة بلاده العسكرية في العملية، إلا أن الموقف السياسي كان يكفي وحده لمحاصرة إيران وحشرها في الزاوية، سيما في ظل تواصل كل من تركيا والسعودية مع أذربيجان أيضاً.
هكذا، وجدت إيران نفسها أمام تحالف خليجي – عربي، مدعوم من دولة إقليمية كبيرة وجارة لها هي تركيا، بينما الدعم الباكستاني وربما الأذربيجاني يحاصر امتداداتها الحيوية نحو الشرق في أفغانستان وفي القوقاز وآسيا الوسطى. ورغم أن العملية ما زالت في البدايات ومن الصعب الجزم بنهاياتها، خصوصاً في ظل الاعتماد شبه الكامل على القصف الجوي الذي لا يمكن له حسم المعركة بمفرده، فإن الموقف الإيراني المتسم بالدعوة للحوار ووقف العمليات يشير إلى فقدان إيران الكثير من أوراق القوة في اليمن، مع التحالف المتشكل، ومع عوامل البعد الجغرافي عنها وصعوبة الدعم العسكري المباشر إن فكرت به.
الآفاق المستقبلية
بعد أيام قليلة من بدء عملية عاصفة الحزم السعودية – الخليجية بدعم تركي – باكستاني، وقبل أن يتضح مسار العملية ونتائجها المحتملة، ظهرت آراء كثيرة تدعو إلى استثمار التحالف لما هو أبعد من اليمن، أي لمحاولة صد التمدد الإيراني في سوريا والعراق. الكثيرون رأوا في التحالف فرصة لعمل يتخطى اللحظة الآنية في اليمن، أي أن يعمل استراتيجياً لإعادة التوازن إلى المنطقة، اعتماداً على التشابه الكبير في الاصطفافات بين اليمن وسوريا.
ولئن كانت عملية عسكرية مشابهة لعاصفة الحزم في سوريا لا تبدو مرجحة حالياً لعوامل عدة، على رأسها القناعة التركية النظرية بأهمية تجنب المواجهات العسكرية – خاصة التي يمكن أن تحمل بعداً مذهبياً – وعدم قدرتها عملياً على مواجهة الدور الروسي أيضاً في سوريا وحدها ودون غطاء و/أو دعم من حلف الناتو أو قرار من مجلس الأمن إضافة لحداثة العلاقات الجيدة مع السعودية وقرب الانتخابات البرلمانية التركية، فإن التحالف العشري المشكل يحمل بين طياته بذور عمل استراتيجي يمكنه احتواء الطموح الإيراني.
وبذلك، يبدو أن تركيا تحديداً تستثمر عاصفة الحزم للضغط على إيران في الساحة اليمنية واستنزافها سياسياً واقتصادياً وربما عسكرياً، بينما ترفع من سقف خطابها المنتقد لها، وتمد لها يد الاتفاقات الاقتصادية الموقعة أخيراً في زيارة الرئيس التركي لطهران، وتحاول التواصل مع الحكومة العراقية لاحتوائها وموازنة النفوذ الإيراني الطاغي هناك، وتعمل على تشكيل محور الرياض – أنقرة- إسلام أباد، إضافة إلى تقوية اللاعبين المحللين في كل من سوريا والعراق، أي الفصائل السورية والعشائر العراقية، وهي منظومة عمل متكاملة وطويلة المدى تعول عليها أنقرة حالياً لمحاولة إعادة الرشد لجموح طهران المنفلت من عقاله حتى الآن.
بهذا المعنى، على الأقل، تبدو عاصفة الحزم فرصة ذهبية لإعادة رسم خارطة النفوذ في الإقليم، بعيداً عن الهيمنة والتمدد، ودفعاً لإيران نحو علاقات طبيعية مستقرة معتمدة على احترام سيادة الدول ومصالحها، وهو ما يمكنه أن يصنع مستقبلاً مستقراً لشعوب ودول المنطقة إن استطاعت صياغة نظام إقليمي جديد قائم على التعاون والتنسيق والعمل المشترك بدل التمدد والنفوذ والسيطرة وتهديد المصالح، ففي النهاية لا مستقبل لهذه المنطقة إلا بوجود وتعاون وتعايش وتكامل شعوبها الأربعة، العرب والأتراك والفرس والأكراد، كما كانوا دائماً في معظم الفترات التاريخية.