طوفان الأقصى.. مكاسب إستراتيجية لن تغيرها التفاصيل
الجزيرة نت
9/10/2023
تختلف المواجهة الحالية بين المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس والاحتلال “الإسرائيلي” عن المواجهات السابقة من عدة زوايا في مقدمتها حجم المفاجآت التي تبدت على مدى اليومين الماضيين، ولذلك فإن لجولة المواجهة الحالية مكاسب عدة ذات طبيعة إستراتيجية بغض النظر عن مسارها ومآلاتها.
سلسلة مفاجآت
شهدت معركة طوفان الأقصى التي أعلنتها حركة المقاومة الإسلامية -حماس- عدة مفاجآت غير مسبوقة، تمثلت أولاها في التوقيت حيث اختارت يوم السبت في ختام الأعياد اليهودية وفي ذروة الاعتداءات على المسجد الأقصى، فكان توقيتا غير متوقع بالنسبة لجيش الاحتلال الذي اختمره شعور زائف بالراحة والانتصار في الأقصى، فضلا عن احتمالية تقصد التزامن مع رمزية معركة السادس من أكتوبر 1973.
وتحيل هذه المفاجأة إلى أخرى أظهرت الفشل الاستخباري والعسكري الذريع للاحتلال. ذلك أن معركة بهذا الحجم والأهمية والتخطيط كان يُعدُّ لها منذ شهور طويلة على أقل تقدير، ورغم ذلك فقد فشلت الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” في توقعها رغم أن كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس قامت بعدة مناورات تدريبية مؤخرا لم تؤخذ فيما يبدو على محمل الجد. كما أن العملية أظهرت قدرة فائقة للمقاومين الفلسطينيين في الاختراق والتسلل نحو مستوطنات غلاف غزة والداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، بعد تحييد عدد من القواعد والنقاط العسكرية على الحدود وإخراج بعض منظومات التواصل من الخدمة.
إضافة إلى أن العملية الفلسطينية شملت استخدام البر والبحر والجو بما في ذلك الطائرات الشراعية التي استخدمت بحرفية فائقة في الساعات الأولى للهجوم واستطاعت تضليل الرادارات.
ومن المفاجآت كذلك حجم إنجازات المقاومة الفلسطينية بالأرقام في وقت قليل جدا وإمكانات محدودة. فعلى يد عشرات فقط من قوات النخبة في كتائب القسام، على ما أعلن، تخطت حصيلة القتلى في الجانب “الإسرائيلي” وفق الأعداد الرسمية ما خسرته دولة الاحتلال في حرب عام 1967 مثلا. وأما أعداد الأسرى لدى الجانب الفلسطيني من جنود ومستوطنين فقد تجاوزت أي توقعات، حيث تدور التوقعات غير الرسمية حتى كتابة هذه السطور عن عشرات قد تتجاوز المئة. يضاف لهذه المفاجآت وفي مواجهتها فشل “إسرائيلي” وعجز تام عن السيطرة على مستوطنات غلاف غزة، إذ استمر المقاومون الفلسطينيون في التواجد فيها والاشتباك مع جيش الاحتلال مع نهاية اليوم الثاني للمعركة، ولا يبدو أن تلك الحالة مقبلة على الانتهاء قريبا في ظل إعلان كتائب القسام عن قدرتها على تبديل مقاتليها هناك بمجموعة جديدة واستمرار الاشتباك.
مكاسب إستراتيجية ليس واضحا بعد بأي اتجاه ستسير المواجهة وما هي مآلاتها النهائية. فقد أعلن نتنياهو عن حالة حرب وعن نية جيشه الانتقام من حماس وقطاع غزة. وبالنظر لحجم الضربة والإهانة التي تعرض لها الأخير وحكومته والمؤسسة العسكرية معا، فإن المتوقع أن يقدم الاحتلال على توجيه ضربة أقسى من اعتداءاته السابقة على القطاع بما في ذلك تقصد إيقاع أكبر عدد ممكن من الشهداء بين المدنيين، والذين وصل عددهم للحظة كتابة هذه السطور 170 شهيدا و2200 جريح.
ومع أن دولة الاحتلال تسعى لحشد أكبر دعم دولي ممكن تقف في مقدمته الولايات المتحدة الأميركية، لمنحها غطاء سياسيا دوليا للاستفراد بغزة ومقاومتها، فإنه ليس من الواضح ما إذا كانت ستقدم على اجتياح بري لغزة أم لا في الساعات المقبلة، مع بقائه خيارا مرا ولكن ضروريا بالنسبة لها، لا سيما مع الكلفة الباهظة المتوقعة لخيار من هذا النوع عليها، عسكريا وبشريا وبالتالي سياسيا واقتصاديا.
كما أنه ليس من الواضح إلى أي مدى سيكون للمواجهة الحالية أبعاد إقليمية. صحيح أن المعركة بدأت في المقام الأول لأسباب محلية متعلقة بالانتهاكات في المسجد الأقصى وحصار غزة وغيرها من الملفات، إلا أن حجم المعركة واحتمالات تطورها تحمل بالتأكيد بذرة الانتقال لأبعاد إقليمية. ومن هذه الزاوية ترصد قوات الاحتلال قصف حزب الله اللبناني لمزارع شبعا في “رسالة تضامنية” مع المقاومة الفلسطينية.
رغم كل ما سبق، وبغض النظر عن المسارات المستقبلية والمآلات النهائية للمواجهة الحالية، فإنها قد حققت للفلسطينيين ومقاومتهم عدة مكاسب إستراتيجية لن تتغير ولن تؤثر فيها التفاصيل اللاحقة، أهمها ثلاثة.
المكسب الإستراتيجي الأول
هو كسر هيبة دولة الاحتلال ومؤسساتها العسكرية والأمنية بشكل غير مسبوق وكسر أسطورة الجيش الذي لا يقهر والجندي المدجج بالسلاح المتفوق على الآخرين. إن مباغتة كتائب القسام وتفوقها الملحوظ وإنجازاتها البادية ولا سيما العدد الكبير من القتلى والأسرى “الإسرائيليين” ومشاهد المواجهات المباشرة بين المقاومين والجنود قد أنتجت صورة من الصعب ترميمها بالنسبة لدولة الاحتلال في السنوات القليلة القادمة.
كما أن هذه الصورة المتضعضعة لقوات الاحتلال سيكون لها أثرها الكبير على معنويات كل من المقاومة الفلسطينية وجمهورها من جهة وجيش الاحتلال وجبهته الداخلية من جهة ثانية بشكلين متعاكسين بطبيعة الحال. فضلا عن أن كسر صورة “إسرائيل” كقوة عسكرية وأمنية كبيرة في المنطقة قد يكون له أثره السلبي على مسار تطبيع علاقاتها مع عدد من الدول العربية والإسلامية، خصوصا إذا ما أقدمت على عمل عسكري في غزة تسبب بخسائر بشرية كبيرة.
المكسب الإستراتيجي الثاني
يرتبط بمصير مستوطنات غلاف غزة على المدى البعيد. ذلك أن ما شهدته هذه المستوطنات من مواجهات وخبره المستوطنون بشكل فردي ومباشر من ضعف وفشل لأجهزتهم في حمايتهم سيدفعهم للزهد في العودة لها حتى ولو انتهى الحدث الأمني وبعد انتهاء المعركة الحالية. إن أحد النتائج المتوقعة لمعركة طوفان الأقصى ألا تعود تلك المستوطنات لحالتها السابقة وربما تفكيكها عمليا وإن لم يحصل ذلك على شكل إعلان رسمي وتنفيذ مباشر من الدولة، وهو ما يشبه من زاوية ما تفكيك المستوطنات داخل القطاع بعد الانسحاب منه.
أما البديل لذلك فهو العمل على استبقاء عدد من المستوطنين فيها مع تخصيص مصادر كبيرة وبالتالي مرهقة عسكريا وأمنيا واقتصاديا لمحاولة طمأنتهم وإبقائهم فيها.
المكسب الإستراتيجي الثالث
يتعلق بملف الأسرى. فقد عرضت المقاومة الفلسطينية مرارا عقد صفقة تبادل أسرى مع الاحتلال عبر وسطاء دون أن تجد تجاوبا. الآن، وفي يد المقاومة الفلسطينية عشرات الأسرى لم يعد ممكناُ لأي حكومة “إسرائيلية” تجنب عقد الصفقة وبما يرضي المقاومة الفلسطينية وبـ”تنازلات” صعبة على الاحتلال، إذ إنه لن يكون بمقدورها تجنب الضغوط الداخلية عليها لاسترداد هذا العدد الكبير من الأسرى.
في المحصلة، أخيرا، فإن معركة طوفان الأقصى قد أظهرت عزما وتصميما وتخطيطا وتنفيذا فاق كل التوقعات من جانب المقاومة الفلسطينية، أظهر أنها كانت في حالة إعداد منذ مدة طويلة، وقد استطاعت الأخيرة تحقيق منجزات لن يمكن لأي حكومة “إسرائيلية” حالية أو قادمة تجنب التعامل مع تبعاتها.
وبغض النظر عن مآلات هذه المواجهة وكيف ومتى ستنتهي، وبغض النظر عما يمكن أن تسببه للمستوى السياسي في دولة الاحتلال بما في ذلك احتمالات إسقاط الحكومة وإنهاء المسيرة السياسية لبعض القيادات وفي مقدمتهم نتنياهو، إلا أنها في الساعات الأولى فقط حققت مكتسبات ذات طابع إستراتيجي لن يكون من السهل تخطيها أو عكسها مهما كانت تفاصيل المستقبل القريب.