من الصعب تصور أن فرداً أو بيتاً فلسطينياً – أو عربياً أو مسلماً أو حراً في العالم أجمع – لم يعش مساء أمس فرحة عارمة. فالمؤتمر الصحافي الذي عقده السيد
خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية-حماس حمل البشرى للملايين: بعد خمس سنوات وأكثر من الصبر والمجاهدة والصمود في
المفاوضات، أخيراً تتكلل الجهود بالنجاح وأصبحت صفقة تبادل الأسرى على وشك أن ترى النور.
الخبر-المفاجأة نزل كالصاعقة على الدوائر الصهيونية وما يسمى ب”شعب إسرائيل” وبرداً وسلاماً على أهالي الأسرى والشعب الفلسطيني بمختلف أطيافه، خاصة بعد أن اتضح أن الصفقة تمت (في غالبية بنودها) وفق الشروط التي وضعتها المقاومة منذ البداية ورفضها الصهاينة، قب أن يذعنوا لها في نهاية المطاف.
التفاصيل القليلة التي أوردها مشعل (وتلك التي بدأت ترشح في وسائل الإعلام) كانت تشير وبقوة إلى أننا أمام صفقة متميزة ومختلفة عما سبقها، محملة بالعناوين والأسرار والمعاني. يحسب لحركة حماس وفريقها المفاوض الرمزية المغرقة وعميقة المعاني التي تمت في سياقها الصفقة، بما يرفع بالتأكيد من أسهم حماس ونهجها المقاوم ومبادئها الوطنية. فالصفقة (في حال تمت إن شاء الله) تقضي بالإفراج عن كل الأسيرات، وكل الأسرى المرضى والمتقدمين في السن، وتشمل أسرى من كل الفصائل، ومن كل مناطق تواجد الشعب الفلسطيني بما فيها القدس والأراضي المحتلة عام 1948 إضافة إلى الجولان (البعد العربي) بما يؤكد على وحدة الشعب الفلسطيني أينما كان وتوحده مع عمقه العربي، إضافة إلى معظم أصحاب المؤبدات والأحكام العالية الذين كانوا دائماً مرفوضين من قبل الصهاينة رفضاً باتاً.
الصفقة-الحدث والظهور الإعلامي الموفق للسيد خالد مشعل حملا العديد من المعاني التي لا يجب أن تمر سريعاً دون التركيز عليها والإستفادة منها، بل والبناء عليها فلسطينياً وعربياً. نذكر منها:
أولاً: أكدت الصفقة ُ الأولوية َ المركزية التي تحتلها قضية الأسرى بالنسبة للشعب الفلسطيني بكافة توجهاته، وأظهرت أن المقاومة وقيادتها تعطي في موازاة ذلك تلك القضية ما تستحقه من اهتمام وتركيز، متوجة ذلك بالعهد والقسم لمن لم تشمله هذه الصفقة بتحرر قادم.
ثانياً: أثبتت الصفقة عملياً وبما لا يدع مجالاً للشك أو عذراً بالجهل لدى أحد، أن المقاومة ترجع الأسرى إلى ذويهم، وأن خطف الجنود الصهاينة هو الطريق الذين يؤدي في نهايته إلى الحرية. سيما وأنها الصفقة الاولى التي تتم بعد أسر جنود صهاينة واحتجازهم داخل الأراضي الفلسطينية.
ثالثاً: كما أثبتت أن الصمود في المفاوضات والثبات على المبادئ يجبر المحتل على الرضوخ لشروط المقاومة، خاصة عند التحلي بأوراق القوة وعدم تحييدها في المفاوضات. فالزعماء الصهاينة رددوا مراراً وتكراراً أنهم لن يقبلوا بخروج “الملوثة أيديهم” بالدماء الصهيونية، وانهم لن يفاوضوا “الإرهابيين”، ولكنهم في النهاية رضخوا صاغرين.
وهذا الأمر يفتح الباب واسعاً للفصائل الفلسطينية كي تتنافس وتنسق فيما بينها لأسر المزيد من الجنود لتحرير باقي الأسرى بعد أن تحطمت لاءات الصهاينة العديدة على صخرة الصمود التفاوضي الفلسطيني.
رابعاً: أكدت حماس في شروط بنود صفقة التبادل حرصها على الكل الفلسطيني وعلى وحدة الشعب الفلسطيني في كل مناطق تواجده، بما في ذلك القدس وأراضي ال48، الذين كانوا خطاً أحمر صهيونياً كسرته إرادة الصمود لدى المفاوض الفلسطيني، معبرة عملياً عما أسماه مشعل “وحدة الوطن والشعب”.
خامساً: ابتعدت حماس عن “العنتريات” والمبالغات الإعلامية المعتادين عليها فلسطينياً وعربياً، ولم تحرص على تجيير الإنجاز فصائلياً بل اعتبرته إنجازاً لكل الشعب الفلسطيني، حيث حرص “أبو الوليد” على ترديد صيغة “الإنجاز الوطني” و”قيادة المقاومة”، بينما غابت أو كادت تغيب حركة حماس – لفظاً واسماً – عن المؤتمر الصحافي. إلى ذلك فقد كانت الرزانة ورابطة الجأش التي ظهر فيهما قائد حماس تنبئان بما كان متوقعاً من “سعادة ممزوجة بالألم” لأن الصفقة لم تشمل جميع الأسرى في السجون.
سادساً: بعد أن كشفت “عملية الوهم” المتبدد عدم وجود حدود لإبداعات المقاومة عسكرياً، أبانت الصفقة عن إنجاز استخباراتي وعملاتي غير مسبوق في صراع الأدمغة مع العدو الصهيوني. فالصهاينة لم يستطيعوا الحصول على جنديهم الأسير بالحرب ولا وصلتهم أي معلومة عنه خلال خمس سنوات من الأسر، رغم ضيق مساحة القطاع الجغرافية، إضافة لصبر وسرية وطول نفس المفاوضين الفلسطينيين، مما أدى بالصهاينة في النهاية إلى الاستسلام لشروط المقاومة.
سابعاً: تأثير الثورات العربية الإيجابي على القضية الفلسطينية وصمود شعبها والسلبي على دولة الكيان. “نتنياهو” نفسه قال أن الصفقة تمت لأنها كانت آخر فرصة ربما لن تتاح ثانية، في ظل التغيرات التي تشهدها المنطقة. وأشارت التسريبات الإعلامية أن رئيس جهاز الشاباك هو من نصح رئيس وزرائه بذلك، خوفاً من فوات الفرصة إلى غير رجعة، في ظل الربيع العربي وثبات المفاوضين على شروطهم.
ثامناً: وربما هو الأهم: التوقيت العجيب لإتمام الصفقة، متزامنة مع الربيع العربي المتدحرج في البلاد العربية واحداً تلو الآخر، وانتصار العائر من رمضان (أكتوبر)، والأهم تزامنه مع حرب الأمعاء الخاوية التي يخوضها الأسرى الأبطال في سجون الإحتلال الصهيوني. هذا التوقيت أراه ربانياً بكل المقاييس وخارجاً عن إطار التخطيط والترتيب، ولذلك فهو مفرح ومبشر في آن ٍ معاً. ولا يفوتنا الإشارة إلى تأكيد حماس على أن هذه الصفقة ليست بديلاً عن صراع الأسرى في إضرابهم المفتوح عن الطعام وليست حلاً له.
هي مرحلة جديدة بميادئ وإشارات جديدة نلااها تلوح في الأفق، تحتم على الفصائل الفلسطينية والمحيط العربي إعادة التقييم، للخروج برؤية موحدة وبرنامج عملي واحد للنهوض بالقضية الفلسطينية، خاصة في ظل التعنت الصهيوني والفشل الذريع الذي منيت به عملية التسوية، وكلنا أمل أن تجد هذه النداءات التي اطلقها مشعل ونطلقها معه آذاناً صاغية لدى قيادات العمل الوطني والسلطة الفلسطينية.