يلتقي اليوم – الاثنين رئيسا حزبي العدالة والتنمية (أحمد داود أوغلو) والشعب الجمهوري (كمال كيليجدار أوغلو) في اجتماع هام، بعد خمسة اجتماعات أولية أو “استكشافية” كما فضلوا تسميتها.
وفي مقابل حرص الشعب الجمهوري على إعطاء إشارات إيجابية والبعد عن التصعيد مع شريكه الآني وخصمه الدائم، يؤكد أكثر من قيادي في الحزب الحاكم أن اللقاء ليس نهائياً ولا يتوقع أن يخرج عنه قرار حاسم بخصوص تشكيل الائتلاف الحكومي، إيجاباً او سلباً، بل يرجحون الحاجة للقاءات أخرى، قد تشمل حزب الحركة القومية.
الأجواء التي جرت فيها اللقاءات الاستكشافية الخمسة بين الحزبين وناقشت مختلف الملفات يمكن وصفها بالإيجابية أو العادية، بينما لم يرشح شيء عنها إلا في ختامها حين أكد الوفدان أنها “لقاءات تشاورية وليست لقاءات تشكيل الائتلاف”، وأن الوفدين “اتفقا على مواضيع، واختلفا حول بعض المواضيع، ويبدو لقاء رئيسي الحزبين مهماً لبت في مواضيع أخرى”. ولكن نظرة إلى مواضيع الخلاف وأهميتها ومحوريتها – وفي مقدمتها السياسة الخارجية والتعليم ومكافحة الإرهاب وصلاحيات الرئيس – تعطي انطباعاً سلبياً ولا شك.
وهكذا يبدو أن معظم المهلة الدستورية المحددة بـ 45 يوماً لتشكيل الحكومة تقترب من نهايتها (بدأت في 9/7 وتنتهي في 23/8) دون تحقيق اختراق كبير، وهو ما عرّض رئيس الوزراء لاتهامات بتقصد الإبطاء وتمضية كل/معظم الفترة دون قرار واضح، بما يضيّق الهامش الزمني لتكليف غيره (كيليجدار أوغلو نفسه) بتشكيل الحكومة إن فشل هو بذلك، حتى تصل البلاد للحظة الانتخابات المبكرة.
إذاً، من الناحية النظرية ما زال من الممكن الوصول إلى حكومة ائتلافية بين الحزبين، بل ومن الممكن – نظرياً مرة أخرى – أن يُعهد لزعيم المعارضة بتشكيل حكومة ائتلافية وينجح في ذلك، بينما واقعياً، فالسيناريو الأبرز هو نفسه المرجح منذ أسابيع، أي الانتخابات المبكرة.
في الأساس، فإن جزءاً لا بأس به من النقد الموجه للعدالة والتنمية هو محاولة فرض هذا السيناريو طمعاً بتحسين نتيجته وعودته إلى الأغلبية المطلقة التي تمكنه من تشكيل الحكومة حينها بمفرده، سيما بعد أن اتضح أن فرصة اتفاق أحزاب المعارضة فيما بينها شبه مستحيلة. بينما يبدو من اللافت امتداح الشعب الجمهوري لداود أوغلو، واعتباره ضحية لسلطة اردوغان الذي يرفض الحكومة الائتلافية ويحاول فرض إعادة الانتخابات، عكس إرادة رئيس وزرائه.
حسناً، لا جديد إذاً في الأفق، فالسؤال في الغالب الأعم من نقاشات السياسة والإعلام في تركيا اليوم لم يعد حول الحكومة الائتلافية بل حول الانتخابات المبكرة، بعد أن لعبت عدة عوامل في تخفيف القلق الشديد الذي ساد بعيد إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة، وأهمها مرور الوقت، وصمود الاقتصاد نسبياً، وخلافات المعارضة، وطريقة إدارة العدالة والتنمية لهذه الفترة حتى الآن.
السؤال إذاً بات كالتالي: ما هي الآليات التي يمكن أن توصل للانتخابات المبكرة، أو بالأحرى: ما شكل الحكومة التي ستعمل حتى ذلك الحين؟
والحقيقة أننا أمام عدة خيارات بسبب عدم حسم الدستور التركي المعمول به منذ 1982 لهذا الأمر:
أولاً، حكومة انتخابات، وهو الشكل القانوني الأبرز وفق الدستور التركي، بحيث تتشكل حكومة من الأحزاب الممثلة في البرلمان وفق نسب تمثيلها فيه، وهكذا يفترض أن يكون للعدالة والتنمية فيها 11 وزيراً، وللشعب الجمهوري 6، ولكل من الحركة القومية والشعوب الديمقراطي 4 وزراء.
لكن هذا الشكل القانوني ليس مرجحاً جداً، لأن كلاً من العدالة والتنمية والحركة القومية ضد تمثيل حزب الشعوب الديمقراطي في الحكومة، بسبب مواقفه “الرمادية” من “العمليات الإرهابية” الأخيرة لحزب العمال الكردستاني، وهي المواقف التي دفعت البعض للمطالبة بمحاكمة بعض قادته على “تصريحاتهم الداعمة للإرهاب”، بينما طالب آخرون – وفي مقدمتهم اردوغان نفسه – بنزع الحصانة البرلمانية عن نوابه.
ثانياً، حكومة أقلية، يشكلها العدالة والتنمية من وزرائه فقط، ويحصل على دعم الحركة القومية – دون مشاركته في الحكومة – خلال التصويت على منحها الثقة. ويبدو هذا الخيار مرجحاً لأسباب عديدة أهمها موقف الحركة القومية من الشعوب الديمقراطي واستعداده لدعم أي خيار يبعده عن مشاركته نفس المنبر أو الموقف.
وقد صرح رئيس الحركة القومية دولت بهجلي أكثر من مرة بأن حزبه لن يشارك في أي حكومة، وأنه ضد حكومة الأقلية، لكنه “مستعد للتضحية في حال وصلت البلاد لحالة انسداد سياسي” حتى لا تبقى تركيا بلا حكومة، وهو ما اعتبره الكثيرون قبولاً ضمنياً لهذا الخيار حال الحاجة إليه.
من ناحية أخرى، ربما يكون اردوغان نفسه قد أعطى ضوءاً أخضر هو أيضاً لهذا السيناريو، حين تراجع عن موقفه السابق الرافض لحكومة الأقلية باعتبار أن تركيا تحتاج لحكومة قوية ودائمة، بتوضيحه أنه ضد حكومة الأقلية في حال كانت دائمة، أما “تشكيل حكومة أقلية لتقود البلاد للانتخابات المبكرة فذلك ممكن”.
ثالثاً، استمرار الحكومة الحالية حتى الانتخابات المبكرة، وهو سيناريو بات يطرح مؤخراً بشكل متكرر، خصوصاً بعدما تلميح نائب رئيس الحركة القومية إلى إمكانية دعم حزبه لحكومة أقلية يشكلها العدالة والتنمية، واضطراره للتراجع بسبب الضجة التي أحدثها التصريح، وهو ما أضعف فرص ذلك السيناريو بقصد أو عن غير قصد.
رابعاً، حكومة ائتلافية مؤقتة حتى الانتخابات المبكرة، بحيث يتفق الحزبان العدالة والتنمية والشعب الجمهوري (أو الحركة القومية نظرياً) على تشكيل حكومة ائتلافية رغم خلافهما العميق، وبحيث يبرمان اتفاقاً بالحد الأدنى لإيصال البلاد إلى لحظة إعادة الانتخابات دون هزات كبيرة، ولكنه خيار ضئيل الفرص وفق الظروف الحالية.
إذاً، في المحصلة، يبدو أن الأمور تسير نحو الانتخابات المبكرة، ويبدو أن العدالة والتنمية ما زال موجوداً على رأس الحكومة أو في قيادتها، بينما مفتاح الحل بيد الحركة القومية. كيف؟
إن إصرار الحركة القومية على عدم المشاركة في أي حكومة يشارك فيها الشعوب الديمقراطي وعدم دعمها من الخارج يلغي إمكانية تشكيل حكومة من دون العدالة والتنمية، كما يرجح إسقاطه لخيار “حكومة الانتخابات” عبر التصويت بلا.
من ناحية أخرى، يكفي دعم الحركة القومية أو “تمريره” لأي مشروع قانون في مجلس الشعب لتشكيل حكومة أقلية من العدالة والتنمية أو استمرار الحكومة الحالية لجعل ذلك حقيقة ماثلة. وأقول هنا “تمريره” لأن مجرد امتناعه عن التصويت أو مقاطعته للجلسة سيكون كافياً حتى تحسم أصوات العدالة والتنمية الأمر، تماماً مثلما حصل في انتخاب رئيس المجلس. ذلك أن الدستور لا يشترط الأغلبية المطلقة (276 صوتاً) لإعطاء الحكومة الثقة (يشترطها لسحب الثقة منها وإسقاطها)، بل أغلبية النواب الحاضرين للتصويت، وهو ما يمتلكه الحزب الحاكم في مواجهة مجموع نواب الحزبين الآخرين (258 مقابل 212).
إن الأسبوع الحالي سيكون حاسماً جداً لاتخاذ قرار ما بخصوص الحكومة الائتلافية بعد اللقاء المنتظر بين الزعيمين، وبغض النظر عن ذلك القرار، تبدو البلاد سائرة قدماً نحو إعادة الانتخابات (على الأغلب في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل) تحت حكومة يشكلها أو يقودها العدالة والتنمية، ويملك مفتاح تمريرها الحركة القومية، الذي يرى إعادة الانتخابات في مصلحته، خصوصاً في ظل التوتر القائم على الحدود وجمود عملية التسوية مع الأكراد.