“سيف القدس” تفتح فصلاً جديداً في القضية الفلسطينية

“سيف القدس” تفتح فصلاً جديداً في القضية الفلسطينية

الجزيرة نت

 

في الساعة الثانية من فجر يوم الجمعة 21 من أيار/مايو الجاري بدأ سريان وقف إطلاق النار بعد 11 يوماً من المواجهة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال “الإسرائيلي” في موجة التصعيد الأخيرة. وهي جولة اتفق معظم المراقبين على أنها كانت مختلفة عن كل سابقاتها من حيث السياق والتطورات وبالتالي الانعكاسات والمآلات.

 

معايير التقييم

حسب المصادر الصحية الفلسطينية، فإن الحصيلة البشرية للعدوان في الجانب الفلسطيني حوالي 280 شهيداً وآلاف الجرحى في كل من غزة والضفة والأراضي المحتلة عام 1948، مقابل 12 قتيلاً “إسرائيلياً” وعشرات الجرحى. فإذا ما أضيف لذلك الضرر في المباني والمؤسسات والبنى التحتية، ستوحي هذه المقارنة بانتصار كاسح للاحتلال وانكسار كبير للمقاومة. لكن ذلك غير صحيح.

ذلك أن المنطق العددي أو الكمّي لا يصلح معياراً سليماً لتقييم النتائج. ولو افترضنا – جدلاً فقط – أنه يصلح لكان من الواجب المقارنة مع المواجهات السابقة، وآخرها معركة العصف المأكول في 2014 والتي استشهد خلالها 2147 فلسطينياً مقابل مقتل 72 “إسرائيلياً” على مدى 51 يوماً من المواجهة. وهو ما يعني تغيراً طفيفاً في نسبة الخسائر البشرية لدى الطرفين، وتغيراً أكبر منه في خانة الفلسطينيين.

بيد أن المنطق الكمي – نكرر ونصرُّ – لا يصح معياراً، وإلا لما نشأت أي حركة تحرر في وجه احتلال عبر التاريخ ولا اليوم. تقليدياً ودائماً، حركات التحرر أقل عدداً وإمكانات من الناحية المادية والعسكرية من محتليها، وهي لا تدّعي توازن القوى ولا تسعى إليها، وإنما تبني استراتيجيتها على الإيلام والاستنزاف بحيث تصبح كلفة استمرار الاحتلال أفدح من زواله/إزالته، بالنسبة له و/أو لداعميه.

فما هي المعايير التي تنفع لتقييم الجولة الأخيرة؟ في ظننا أنها تتلخص في ما غيّرته من معادلات قائمة وقواعد اشتباك، وكذلك ما يلي ارتداداتها وتأثيراتها على مسار القضية والمواجهة مع المحتل، وقد كانت في مجملها لصالح المقاومة لا الاحتلال.

 

معادلات جديدة

فقد أسقطت المقاومة في المواجهة الأخيرة عدداً من المعادلات المهمة التي ترسخت في السنوات الأخيرة من الصراع وأسست لمعادلات جديدة مع الاحتلال.

فقد بادرت المقاومة هذه المرة للتصعيد العسكري رداً على مشاريع الاحتلال باقتحام المسجد الأقصى رفقة مجموعات المعبد وكذلك التطهير العرقي لحي الشيخ جراح في القدس، بخلاف المواجهات الثلاث الكبرى أعوام 2008 و2012 و2014. وقد مهّد ذلك لترسيخ معادلتين مهمتين.

الأولى، أن مهمة المقاومة في غزة ودوافع استخدام سلاحها لم تعد مقصورة على قطاع غزة كما حصل في المواجهات السابقة، وهي المعادلة التي بذل الاحتلال جهداً دؤوباً لإدامتها. ما حصل أن سلاح غزة تدخل تنتصاراً للقدس والأقصى والشيخ جراح، وهو تطور جديد اعترفت أوساط الاحتلال أنها تفاجأت به.

والثانية، أن المقاومة هي التي بادرت هذه المرة ولم تتدخل فقط لرد عدوان مباشر عليها من منطلقات دفاعية. متغير من هذا النوع له تداعيات مهمة على الصراع، فهو يعبر عن الجرأة التي باتت تتمتع بها المقاومة والتي تصدر عن ثقة بالنفس والإمكانات، وتعيد التذكير بأسس القضية وجوهرها، بأن “إسرائيل” وإن لم تهاجم غزة فهي ما زالت محتلة وظالمة وعنصرية، ما يجعل المقاومة واجباً وليس فقط حقاً. وهي أيضاً تبشر بمستقبل قد تصبح معه المواجهات التي تطلق المقاومة طلقتها (أو صاروخها) الأولى أمراً اعتيادياً، ما يفقد الاحتلال ميزة الردع التي ظن أنه كان اكتسبها.

وأما المعادلة الثالثة التي رسختها المواجهة الأخيرة فهي معادلة قصف تل أبيب مقابل استهداف المدنيين في القطاع، وهو ما استطاعت منعه باستهدفتها بمئات الصواريخ، بعد أن أصبح ذلك سهلاً ومتكرراً كـ”شربة ماء” وفق الناطق باسم كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس.

وأما المعادلة الرابعة فكانت توحيد فلسطين والفلسطينيين كما لم يحصل منذ فترة طويلة. فقد بدأت كرة الثلج في القدس، قبل أن تتدخل غزة عسكرياً، ثم تحركت الضفة الغربية وماجت الأراضي المحتلة عام 1948، وكذلك الحدود اللبنانية والأردنية، وانتشرت المظاهرات في الخارج والشتات. كما تجسدت هذه الوحدة الميدانية رمزياً في الإضراب العام الذي شمل الأراضي الفلسطينية جميعها، بعد أن كان الاحتلال يقسّم فلسطين إلى وحدات ويستفرد بكل منها على حدة.

 

خسائر الاحتلال

في المقابل، ورغم ما ادعاه الاحتلال من إنجازات، فقد تكبد خسائر ملموسة في المواجهة الأخيرة. كما أن النقاش خلالها وبعدها في دوائره السياسية والعسكرية والإعلامية دار حول الإخفاق وعلو يد الفلسطينيين في المحصلة بعد المعادلات التي رسختها المقاومة.

وعلاوة على هذه المعادلات الجديدة التي تعدُّ بالتأكيد خسارة محققة للاحتلال، فقد سجل التصعيد الأخير خسائر اخرى لا تقل أهمية. في مقدمة مبادرة الفلسطينيين للمواجهة العسكرية، ما يعني أن استراتيجية “كي الوعي” التي اعتمدها لزيادة كلفة المواجهة معه وبالتالي تصعيب هذا القرار في المستقبل قد فشلت بالكامل. هنا، لا يواجه الفلسطينيون فقط، وإنما يبادرون للمواجهة، ولأسباب لا تبدو “اضطرارية ودفاعية”.

ومما واجهه الاحتلال على مدى الأيام الـ 11 مواجهة عدة جبهات في آنٍ معاً، وهو ما يسعى بكل أدواته وإمكاناته لتجنبه. صحيح أن معظم هذه الجبهات كانت شعبية وسلمية، وأن الصواريخ التي أطلقت من الجنوب اللبناني كانت رمزية نوعاً ما، إلا أن الرسالة كانت واضحة باحتمال تفاقم الوضع وفقدان السيطرة ما دفعه لقبول إنهاء الجولة دون تسجيل إنجازات.

ومن أهم الخسائر التي تلقتها المؤسسة “الإسرائيلية” حراك فلسطيني الداخل كما يطلق عليهم، أو من يفترض أنهم مواطنون “إسرائيليون”. ولا تكمن الخسارة هنا في تضعضع الجبهة الداخلية خلال المواجهة وحسب، وإنما كذلك فشل سياسات الأسرلة والإذابة والتهميش التي مورست عليهم لعقود. وهو مؤشر ذو بعد خطير استراتيجياً بالنسبة للمشروع الصهيوني، حتى ولو هدأت الامور ظاهرياً ومرحلياً، إذ ستبقى دائماً تحمل عوامل الانفجار.

وإضافة للخلاف بين المؤسستين السياسية والعسكرية، والضغوط الداخلية والخارجية على الاحتلال، وفشل منظومة القبة الحديدية في منع الصواريخ، فقد اختتمت المواجهة بمشهد أثبت من له اليد العليا ومن خسر. ففي كل جولة تصعيد يسعى كل طرف لاقتناص “اللقطة الأخيرة” بحيث يؤكد أنه ذهب للتهدئة عن قوة واختيار وليس العكس. هذه المرة، فعلت المقاومة ما هو اكثر، إذ حذرت الاحتلال من أي خطوة حتى دخول وقت الهدنة وإلا أطلقت رشقة صاروخية على “كل جغرافيا فلسطين المحتلة”، وقد التزم الاحتلال الصمت، بما يعني أن المقاومة هي من بادرت للمواجهة وهي من أنهتها.

 

انعكاسات

رغم بعض النقاشات الممكنة والمطلوبة فلسطينياً على هامش المواجهة الأخيرة، إلا أن كل ما سبق يؤكد أنها كانت مختلفة وستفتتح مرحلة جديدة في مواجهة الاحتلال على عدة صعد، أي أن ما بعدها لن يكون كما قبلها إن استثمرت بالشكل الأمثل.

فقد عززت، أولاً، حركة حماس حضورها في المشهد الفلسطيني المقاوم سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، وقدمت نفسها كقوة حامية للكل الفلسطيني، وهذا أمر سيكون له انعكاساته المستقبلية على الوضع الفلسطيني الداخلي وكذلك على مسار الصراع مع الاحتلال، وربما على صعيد العلاقات الإقليمية.

وثانياً، فقد عادت القضية الفلسطينية لصدارة الاهتمام العربي والإقليمي والدولي، وفي سياق تعزيز الرواية الفلسطينية ونقد البروباغندا “الإسرائيلية”، وهو أمر تخطى هذه المرة الأطر الشعبية والنخبوية لدوائر سياسية في عدة دول ربما كان أكثرها لفتاً للأنظار الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة. وهذا كله يصب في منحنى استمرار تراجع الكيان الصهيوني دولياً رغم بعض المؤشرات السلبية هنا وهناك.

وثالثاً، فقد حصل الربط الذي من الصعب أن ينفصم بين القدس وغزة، أو الترابط بين استهداف القدس والأقصى واستخدام القوة العسكرية للمقاومة، وهي معادلة جديدة من الصعب على غزة تجاهلها وسيكون على الاحتلال وضعها في الحسبان قبل أي خطوة استفزازية كبيرة.

ومن الدلالات الواضحة للمواجهة الأخيرة إمكانية تجاوز الانقسام وتوحد الشعب الفلسطيني – كله وفي جميع أماكن تواجده – في سياق المواجهة والمقاومة بكافة أشكالها، والأهم جاهزية الشعب للتضحية ودفع الأثمان إذا ما رأى الجدوى من ذلك والقيادة القادرة على التخطيط ثم الاستفادة والتثمير.

وفي الخلاصة، ورغم أن المواجهة لم تستمر أكثر من 11 يوماً، إلا أنها اكتنفت تطورات مختلفة وانبثق عنها دلالات ذات مغزى وتأثير في المستقبل القريب والبعيد، بشرط أن تُستمر بالشكل المناسب. ويكون ذلك بصلابة المقاومة وصمود الشعب واستمرار الدعم الخارجي، وكذلك بالتقييم والمراجعة لأخطاء المراحل السابقة – لا سيما مسار المفاوضات – وعدم العودة لتجريب المجرّب.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

ما الذي يمنع التقارب التركي – السعودي؟

المقالة التالية

في تقييم المقاومة الفلسطينية: نقاش مع مقال حازم نهار

المنشورات ذات الصلة