سياسة تركيا الخارجية بعد الانتخابات

 

سياسة تركيا الخارجية بعد الانتخابات

TRT العربية

 

ثمة علاقة طردية وثيقة بين السياسة الخارجية لأي دولة ومشهدها السياسي الداخلي، حيث تبدو سياستها الخارجية أكثر فاعلية كلما كانت جبهتها الداخلية أكثر تماسكاً من جهة، فيما تبرز السياسة الخارجية أيضاً كأحد العوامل التي تصوغ قرار الناخب وتقييمه للحكومة والأحزاب المختلفة من جهة أخرى.

وفي الخصوصية التركية، نقل العدالة والتنمية تركيا خلال 16 عاماً من الحكم من دولة منكفئة على نفسها ومعزولة عن مجالها الحيوي إلى دولة إقليمية قوية ومؤثرة في محيطها، ضمن رؤية سعت لجعلها “دولة مركز” في المنطقة، وفق تعبير مهندس السياسة الخارجية التركية رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو في كتابه “العمق الاستراتيجي”.

في نيسان/أبريل 2017 أقر الشعب التركي في استفتاء شعبي تعديلاً دستورياً بالتحول نحو النظام الرئاسي، الذي سيسري تطبيقه مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة في الرابع والعشرين من حزيران/يونيو الجاري. ومن أهم خصائص النظام الرئاسي، من حيث تعريفه، الحكومات المستقرة وآلية اتخاذ القرار السريعة وإنفاذ رؤية القيادة السياسية على مختلف مؤسسات الدولة وفي مقدمتها وزارة الخارجية.

ومن هذا المنطلق، كان قرار تبكير الانتخابات تعبيراً عن إخراج تركيا بشكل أسرع من حالة الترقب والانتظار وعدم وضوح الرؤية التي تركت أثرها على السياسة الخارجية كما على الاقتصاد إلى وضعية اليقين الذي سينبثق عن صناديق الاقتراع وما سيفرزه من نتائج ستشكل التوجهات التركية على مدى خمس سنوات قادمة. وبالتالي أدى القرار والتوقعات بفوز الرئيس الحالي اردوغان في الانتخابات الرئاسية إلى زخم واضح في سياسة أنقرة الخارجية، تمخض عنها حتى الآن اتفاق مع الولايات المتحدة بخصوص منبج في سوريا وبدء القوات المسلحة التركية عمليات عسكرية نشطة ضد حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل في العراق فضلاً عن دعوة المستشارة الألمانية اردوغان لزيارة بلادها “بعد الانتخابات” على حد تعبيرها.

وبالعودة إلى الانتخابات ومرشحيها الرئاسيين والأحزاب المشاركة بها، تبدو السياسة الخارجية أحد أهم ملفات الخلاف بين الحكومة والمعارضة. ففي حين يرى العدالة والتنمية أن دور تركيا ومكانتها قد تطورا وتقدما في السنوات الأخيرة، يرى حزب الشعب الجمهوري – أكبر أحزاب المعارضة – أن سياسة تركيا الخارجية تعاني من أزمات عدة وتحتاج لحلول سريعة.

ولذا، كانت السياسة الخارجية من أهم المجالات التي اختلف فيها الطرفان – كمثال على الحكومة والمعارضة – في برنامجيهما الانتخابيين. فعلى صعيد الرؤية الناظمة للسياسة الخارجية، يدعو العدالة والتنمية لاستمرار سياسته الخارجية متعددة المحاور وذات البعد الأخلاقي، ويرى تركيا “صوتاً للمظلومين”، ويرى لها دوراً رائداً على مستوى العالم الإسلامي ويقدمها كأحد أهم الداعين لنظام عالمي أكثر عدلاً تحت شعار “العالم أكبر من خمسة”.

في المقابل، يدعو حزب الشعب الجمهوري لسياسة خارجية تنتج استقراراً ومكانة لأنقرة، أقرب لسياستها التقليدية الحذرة التي كانت سائدة في السابق، والتي تبدو أكثر التزاماً بسقوف المنظمات الدولية والحلفاء الغربيين، وأقل اشتباكاً مع الأطراف المختلفة تحت شعار “سلام في الوطن، سلام في العالم”.

ولئن لم يختلف برنامجا الحزبين بخصوص العلاقة مع القوى العظمى والمنظمات الكبيرة، مثل الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إلا في بعض التفاصيل، بدت هناك فروقات واختلافات أكبر في رؤيتيهما لسياسات بلادهما الإقليمية وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ففي حين يعد العدالة والتنمية والرئيس اردوغان باستمرار “السياسة الأخلاقية متعددة المحاور” والتعاون مع مختلف دول المنطقة لمكافحة الاخطار والمهددات المشتركة، يدعو الشعب الجمهوري لترك ما أسماها “السياسة الخارجية الحماسية والمغامرة” في المنطقة.

وبناء على ذلك، ثمة تباين واضح مثلاً – رغم المتشابهات – بين مقاربة كل من الحزبين للعلاقة مع مصر والقضية الفلسطينية والأزمة السورية وخصوصاً لجهة التعامل مع اللاجئين السوريين. ففي حين غابت مصر عن برنامج العدالة والتنمية دعا الشعب الجمهوري لعودة العلاقات مع نظامها، وفي حين تبدو إعادة اللاجئين السوريين لبلادهم أولية للأخير نجد العدالة والتنمية يسعى في سياسات الإدماج والتجنيس والتشغيل (مع إشارته لإعادة من يرغب منهم إلى المناطق الآمنة)، وفي حين حضرت إشارات واضحة بخصوص القدس في برنامج الأخير حذّر برنامج الشعب الجمهوري من الانزلاق نحو ما أسماه “التطرف الإسلامي” في مقاربة القضية الفلسطينية.

وعليه، وفي ظل النظام الرئاسي الذي سيبدأ تطبيقه مع الانتخابات القادمة بعد أيام، يمكن القول إن أي تغير يطرأ على منصب رئاسة الجمهورية واسم الرئيس سيحمل ولا شك متغيرات هامة على صعيد سياسة تركيا الخارجية، على مستويات الرؤية والاستراتيجيات والتوجهات والقرارات على حد سواء.

بيد أن نظرة عميقة في خرائط تركيا السياسية والفكرية والأيديولوجية، وتفحصاً لاستطلاعات الرأي بخصوص المعركة الانتخابية، ومراجعة لمقاربة الناخب لتوجهات السياسة الخارجية لكل من الحزب الحاكم والمعارضة، كل ذلك يشير بقوة إلى أن احتمال هذا التغيير ضئيل للغاية. حيث تبدو فرص الرئيس التركي بالفوز كبيرة بالمقارنة مع المرشحين الخمسة الآخرين، خصوصاً مرشح الشعب الجمهوري محرم إينجة والحزب الجيد ميرال أكشنار، بغض النظر أكان ذلك الفوز في الجولة الأولى وفق ما هو متوقع أم من خلال جولة إعادة.

وهو ما يعني، في الخلاصة، أن سياسة تركيا الخارجية مرشحة – في غياب أي مفاجآت كبيرة – للاستمرار على نفس النهج بعد الانتخابات المقبلة واستمرار اردوغان رئيساً كما هو متوقع، مع زيادة متدرجة في الزخم والحضور والتأثير مستقبلاً خصوصاً في المنطقة ونديةً أكثر في التعامل مع مختلف الأطراف التي تبدو في الآونة الأخيرة أكثر تفهماً لمطالب أنقرة وتحفظاتها – خصوصاً في محيطها – وأكثر تعاوناً معها في عدد من الملفات لا سيما تلك المتعلقة بالأمن القومي التركي.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

الانتخابات التركية: الأهمية والتوقعات والانعكاسات

المقالة التالية

الانتخابات التركية: الأهمية - التوقعات - الانعكاسات

المنشورات ذات الصلة