مع تصديق الرئيس التركي على التعديل الدستوري الذي أقره البرلمان قبل أسابيع برفع الحصانة البرلمانية عن بعض النواب الأتراك ثم نشره في الصحيفة الرسمية يكون الملف قد وضع على سكة التطبيق الفعلي بكل ما يحمله ذلك من نتائج محتملة وانعكاسات متوقعة وتأثيرات حساسة.
التعديل الدستوري الذي أقره البرلمان التركي في 21 أيار/مايو الفائت بنسبة فاقت الثلثين يتعلق بفتح الباب أمام التحقيق مع أعضاء البرلمان الذين توجد بحقهم طلبات تحقيق باتهامات متنوعة، إذ أن الدستور التركي يحظر التحقيق مع أي برلماني إلا بموافقة الهيئة العمومية للبرلمان. ولما كان عدد البرلمانيين كبيراً فقد ذهب حزب العدالة والتنمية الحاكم لاقتراح تعديل دستوري يشمل جميع هؤلاء النواب بأثر رجعي ولمرة واحدة، وهو التعديل الذي وافقه عليه حزب الحركة القومية وبعض نواب حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة.
ولأن التعديل يشمل كل وأي نائب يوجد بحقه طلب تحقيق حين نشره في الصحيفة الرسمية بعد موافقة الرئيس، فقد انتظر الأخير حتى الساعات الأخيرة من مهلة الـ15 يوماً الممنوحة له لإقرار التعديل بحيث يضم أكبر عدد ممكن منهم على ما يبدو. ولذا فقد ارتفع عدد النواب وعدد طلبات التحقيق من 138 و 787 على التوالي حين تصويت البرلمان إلى 152 و 799 على التوالي حين توقيع اردوغان. الفارق الواضح بين عدد النواب وعدد الملفات يظهر جلياً أن بعض النواب لهم أكثر من ملف للتحقيق، ويتصدر حزب الشعوب الديمقراطية (القومي الكردي) القائمة بـ 511 ملفاً (لرئيسه دميرطاش وحده 57 ملفاً)، يليه حزب الشعب الجمهوري بـ 211 ملفاً، ثم العدالة والتنمية بـ 50 ملفاً، ثم حزب الحركة القومية بـ 23 ملفاً، وباقي الملفات تخص نائبة مستقلة تم إخراجها من حزبها مؤخراً.
بطبيعة الحال، تتنوع الاتهامات الموجهة للنواب من الأحزاب الأربعة الممثلة في البرلمان، بدئاً من الشتم والإهانة مروراً بالفساد والرشوة وانتهاءً بدعم الإرهاب والإضرار بمصالح الدولة، ويبدو أن هذه المجموعة الأخيرة من الاتهامات تطال بشكل شبه حصري نواب حزب الشعوب الديمقراطية (القومي الكردي) الذي أقدم بعض نوابه على تصرفات كثيرة تقع تحت طائلة المساءلة القانونية وانتهاك الدستور مثل المشاركة في جنائز الانتحاريين والهتاف تحت قبة البرلمان باسم عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني (المصنف إرهابياً في تركيا) والمطالبة بإدارات ذاتية في مناطق الأغلبية الكردية، ولعل ذلك ما أعطى بعداً سياسياً واضحاً للتعديل الدستوري.
وبحسب الدستور التركي فإن البرلمان سيقط عضوية أي برلماني يحكم عليه بسنة سجن فما فوقها – بعد استكمال كافة درجات المحاكم – أو يدان بتهمة “مشينة” مثل السرقة وغيرها، وهو ما فتح الباب على التكهنات بمآل هذا الملف وتأثيره على تركيبة البرلمان الحالية.
صحيح أن التعديل الدستوري لا يدين أحداً بشكل مباشر وإنما يكتفي بالسماح بالتحقيق مع البرلمانيين المعنيين، إلا أن بعض تصريحات الرئيس التركي من قبيل “شعبي لا يريد أن يرى من يدعمون الإرهاب في البرلمان” تشي بأن الأمر قد يصل إلى ما هو أبعد من ذلك.
في المقام الأول، يمكن اعتبار هذه الخطوة ضغطاً على حزب الشعوب الديمقراطية الذي يعتبر إلى حد بعيد الذراع السياسية لحزب العمال الكردستاني للعودة إلى العمل السياسي المحض والحفاظ على مسافة واضحة من العمليات العسكرية “الإرهابية” التي ينفذها الكردستاني في المدن التركية الكبيرة وفي أحياء مدن الجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية. خطوة كهذه إن حصلت، رغم صعوبة تحققها لعدة أسباب لا يتسع المقام لذكرها، ستساهم ولا شك في إحكام الحصار على الكردستاني وإفقاده ما تبقى من حاضنة شعبية ما زال يحتفظ ببعضها بعد خسارته جزءاً مهماً منها على خلفية استئنافه العمليات والتفجيرات داخل المدن بعد سنوات من التهدئة.
بيد أن الأثر الأكبر لهذا الملف يرتبط بنتائجه على المدى البعيد، إذ أن إدانة عدد من النواب – بغض النظر عن عددهم – سيفتح الباب أمام إعادة الانتخابات في دوائرهم، وهو الأمر الذي يتوقع أن يستفيد منه حزب العدالة والتنمية باعتبار أن معظم هؤلاء سيكون من برلمانيي حزب الشعوب الديمقراطية. ففي ظل تراجع شعبية الأخير والتنافس شبه الحصري بينه وبين العدالة والتنمية في المناطق ذات الأغلبية الكردية سيكون من السهل توقع رفع الحزب الحاكم لعدد نوابه مما يزيد من فرصه في تمرير الدستور الجديد للبلاد عبر البرلمان وعرضه على الاستفتاء الشعبي، سيما وأنه لا يحتاج إلى أكثر من 14 صوتاً إضافياً لذلك.
أبعد من هذا، قد يساهم تراجع شعبية الشعوب الديمقراطية إضافة إلى المشاكل الداخلية التي تعصف بالحركة القومية (ثاني أحزاب المعارضة) في تشجيع الرئيس اردوغان على الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة قد يراهن فيها على حصول العدالة والتنمية على أكثر من ثلثي مقاعد البرلمان. وسيفيده جداً في هذا الإطار مغازلته للناخبين القوميين بخطابه عالي السقف تجاه الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطية وأيضاً قانون “الحاجز الانتخابي” الذي سيوزع أصوات هذين الحزبين – في حال صدقت التوقعات ببقائهما خارج البرلمان – على العدالة والتنمية (النسبة الكبرى) والشعب الجمهوري (النسبة الأقل). وهو ما يعني أن الحزب الحاكم سيكون قادراً من الناحية الحسابية على حسم ملف الدستور والنظام الرئاسي عبر البرلمان ودون الحاجة للاستفتاء الشعبي.
بيد أن صياغة الدستور لا تخضع فقط لحسابات الأغلبية البرلمانية، إذ الدستور في نهاية المطاف عقد تشاركي وتوافقي بين مختلف مكونات المجتمع. وعليه فإن عدم التوافق مع الأحزاب الأخرى – بعضها على الأقل – ومع منظمات المجتمع المدني المختلفة إضافة إلى سيناريو انتخابات الإعادة الجزئية أو الانتخابات المبكرة لكل البرلمان – إن حصل أحدهما أو كلاهما – سيضع الحزبي الحاكم ومن خلفه الرئيس اردوغان في مواجهة مباشرة مع المعارضة. ومن البديهي أن هذه المعارضة سوف تحصل على دعم خارجي من الصعب تحديد درجته ومستواه منذ الآن من حلفاء تركيا التقليديين الذين تعاني العلاقات معهم حالياً من توترات مستمرة ومتفاقمة، أقصد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
صحيح أن العدالة والتنمية يستطيع أن يثبت أن الكثير من بلدان العالم تطبق قانون رفع الحصانة البرلمانية، لكن ذلك قد لا يعني شيئاً للدول الغربية التي تنظر للأمر من باب كبت الحريات والتصيد للمعارضة حصراً. ولأن تركيا في موقع الطالب لعضوية الاتحاد الاوروبي فيما الأخير في موقع المتابع لأدائها والمقيّم له، فإن خطوات كهذه لا تشي بعلاقة مستقرة ومطمئنة بين أنقرة وبروكسل بل توحي بأوقات صعبة وغير مضمونة العواقب للأولى على المدى المتوسط والبعيد.