رسائل الصندوق .. بماذا تخبرنا نتائج الانتخابات الأخيرة عن تركيا؟
عربي بوست
أنهت تركيا انتخاباتها التي قد تكون الأكثر أهمية وحساسية في تاريخها الحديث، وحظيت باهتمام بالغ في الداخل والخارج. وقد أسفرت النتائج عن فوز الرئيس التركي بولاية رئاسية جديدة وحفاظ تحالفه على أغلبية البرلمان، لكن ثمة دلالات أخرى كثيرة للنتائج أبعد من الأرقام المباشرة.
انتخابات مختلفة
لم تكن هذه الانتخابات الأولى التي يخوضها أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ولكنها كانت الأصعب. فقد أتت بعد 21 عاماً من الحكم المتواصل وتراجع شعبيتهما في السنوات الأخيرة، وفي ظل ظروف ضاغطة متعلقة بالاقتصاد والزلزال الذي ضرب جنوب البلاد قبل أشهر من يوم الاقتراع وملف اللاجئين الذي استخدمته المعارضة ضد الحزب الحاكم.
كما أن الانتخابات جرت وفق منظومة مستجدة من التحالفات، فقد توسع تحالف المعارضة الرباعي (في انتخابات 2018) ليضم حزبين حديثي التأسيس خرجا من رحم العدالة والتنمية برئاسة قياديين سابقين في الأخير، وهما حزبا المستقبل والديمقراطية والتقدم. بل إن المنافس الرئيس لأردوغان في الانتخابات الرئاسية حصل إضافة لهذه الأحزاب الستة على دعم تحالف العمل والحرية الذي يقوده حزب الشعوب الديمقراطي، ثم أبرم اتفاقاً مع رئيس حزب النصر اليميني للحصول على دعمه قبل جولة الإعادة.
عملياً، كانت الانتخابات استفتاء على النظام الرئاسي المطبق في البلاد منذ 2018، بل – وهذا هو الأهم – استفتاء على بقاء أردوغان في الحكم من عدمه، وقد امتلكت المعارضة لأول مرة فرصة حقيقية لإمكانية الفوز بالانتخابات لا سيما التشريعية التي أشارت معظم التوقعات إلى حصوله على الأغلبية البرلمانية فيها، مع مبالغة واضحة في فرص كليجدارأوغلو في الفوز بالرئاسة. وقد كان ذلك في مقدمة الأسباب التي منحت الانتخابات الأخيرة ذلك الاهتمام الكبير إقليمياً ودولياً، خلال الحملات الانتخابية ويوم الاقتراع وبعد صدور النتائج.
فاز الرئيس التركي بولاية رئاسية جديدة بعد أن حصل على نسبة 52.1 من الأصوات في جولة الإعادة، واحتفظ تحالف الجمهور الذي يقوده بأغلبية البرلمان، ما يعني استمرار التوازنات السياسية في البلاد على حالها، لكن هذه النتائج المجردة لا تقول القصة الكاملة، فثمة مدلولات وإشارات ومعطيات تقولها لنا الانتخابات الأخيرة ونتائجها.
رسائل الصندوق
في المقام الأول، ثمة ما هو أهم من النتائج المباشرة واسم الفائز بها، وهو سير العملية الانتخابية بسلاسة ويسر ودون خروقات أو أحداث تذكر، رغم عمق الاستقطاب وسخونة الحملات الانتخابية وحدّة المنافسة بين مختلف الأطراف. ولئن كان هناك نقاش دائر حول مدى “عدالة” الحملة الانتخابية أو التكافؤ في فرص المنافسة في ظل رئيس وحزب حاكم منذ 21 عاماً لأسباب حقيقية وأخرى مدعاة، فإن أحداً لم يشكك بـ”نزاهة” العملية الانتخابية وصدق نتائجها من اللجنة العليا للانتخابات للأطراف الإقليمية والدولية انتهاءً بمن خسروا السباق الانتخابي أنفسهم، وهذا بحد ذاته مكسب كبير للتجربة الديمقراطية التركية.
تقول لنا النتائج أن تأييد حزب العدالة والتنمية في تراجع مستمر في السنوات الأخيرة، فقد تراجع سبع نقاط عن انتخابات 2018، والتي كان تراجع فيها 7 نقاط أخرى عن انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2015. في المقابل تراجعت شعبية الرئيس التركي بشكل طفيف، إذ لم يستطع لأول مرة حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى. وبالنظر إلى الفارق الكبير بين نتيجة الرئيس وحزبه، يمكن استخلاص أن التصويت كانت احتجاجياً او عقابياً في البرلمان لكنه لم يغامر كثيراً في الرئاسة، وهو مؤشر إضافي على أن الناخب التركي يمايز في التصويت بين الرئاسة والبرلمان والبلديات، وهو مؤشر ذكاء ووعي ولا شك. كما أنها رسالة قوية وواضحة الدلالة للحزب الحاكم ينبغي وضعها في الحسبان.
أما الدلالة الثانية لهذا الفارق، فهي أن الشريحة الغاضبة من العدالة والتنمية وجدت له بديلاً أو أكثر من بديل، من بينها الحركة القومية والرفاه مجدداً والأحزاب حديثة التأسيس، بينما كان بديل أردوغان في الرئاسيات مقلقاً وبالتالي لم يكن خياراً حقيقياً بالنسبة لها. يؤكد ذلك، مرة أخرى، أن كلجدارأوغلو لم يكن المرشح الصحيح والمثالي لمنافسة أردوغان فضلاً عن هزيمته، ولذلك فهو يتحمل المسؤلية الأكبر عن تضييع هذه الفرصة رغم كل الظروف المناسبة سالفة الذكر.
تقول الانتخابات كذلك إن حالة الاستقطاب مستمرة في البلاد وإن التيارات الرئيسة في الساحة السياسية بقيت على حالها مع تغير بسيط في أوزانها النسبية. الانقسام ما زال قائماً ومرشحاً للاستمرار مدة لا بأس بها، فالخطابات التي صدرت عن السياسيين بعد إعلان النتائج وفي مقدمتها خطاب أردوغان نفسه حملت نفس مضامين الخطاب تقريباً الذي ساد خلال الحملة الانتخابية. الخبر الجيد أن الانقسام سياسي وليس له صدى مجتمعي كبيرة أو ارتدادات مقلقة في الشارع، وأنه غير قائم على أسس أيديولوجية أو عرقية أو مذهبية، ما يشكل ضمانة نسبية لعدم حصول تطورات غير مرغوب بها بل قد يفتح المجال لنقاش وتعاون يخفف منه على المدى البعيد. لكنه في المقابل مؤشر مهم يضع على كاهل الطرف الفائز، أردوغان وتحالفه، مسؤولية كبيرة في رأب الصدع وتخفيف حدة الانقسام على المدى البعيد.
وقد أظهرت النتائج أن التيار القومي في تركيا مستمر في النمو والتوسع، إن كان على صعيد تعدد المنابر والأحزاب، أو كان على صعيد الثقل في الشارع إذ تخطت نسبة تصويتها مجتمعة %23، مقابل أقل من 10% في 2002، وأقل من %15 في انتخابات 2007 و2011 و2015، وزهاء %21 في 2018. وهو نمو مرشح للاستمرار في الفترة المقبلة، بما في ذلك الشريحة المتطرفة داخله، إذ أن الأسباب التي ساهمت في ذلك ما زالت حاضرة وربما تزداد وتتفاقم.
في المقابل، ما زالت أحزاب الحركة الكردية المرتبطة بالعمال الكردستاني حاضرة ومحافظة على وزنها في المشهد السياسي الداخلي. صحيح أن الانتخابات الأخيرة سجلت تراجعاً بنسبة تقترب من %3 لحزب الشعوب الديمقراطي – الذي خاضها تحت اسم حزب اليسار الأخضر – إلا أن جزءاً مهماً من أسباب ذلك تعود لخوض حلفائه الانتخابات بشكل مستقل هذه المرة مما حرمه من بعض الأصوات التي كانت تأتي له دعماً، كما أنه ما زال ممثلاً في البرلمان وضمن الأحزاب الرئيسة رغم التراجع المذكور.
كما أكدت الانتخابات الأخيرة في جولتيها عدم موثوقية وسائل استطلاع الرأي في أعمّها الأغلب، وأن السبب في ذلك يعود لحالة التسييس التي تسودها. حيث أن من استطاعت منها توقع نتائج الانتخابات السابقة بشكل قريب فشلت في ذلك في الاستحقاق الحالي، ومن اقتربت في توقعاتها هذه المرة من النتائج كانت قد فشلت في ذلك سابقاً، وهكذا، حتى يخيّل للمتابع أن الاقتراب من التوقعات مرده للصدفة أكثر منه للنهج العلمي في استطلاعات الرأي.
وأخيراً، فقد عضدت النتائج الأخيرة فكرة محدودية تأثير العامل الخارجي على الانتخابات التركية. صحيح أن لبعض الأطراف الخارجية دوافع للتدخل ومحاولة التأثير في مسار الانتخابات ونتائجها، وصحيح أن بعضها قام ببعض الخطوات بهذا الاتجاه على وجه الحقيقة أو التوقع مثل تأجيل روسيا دفع تركيا مستحقات غازها أو تصريحات بايدن بخصوص دعم المعارضة أو توسط بعض الأطراف بين أركان الطاولة السداسية، لكن أثر ذلك كان محدوداً جداً في النتائج. ويدرك المتابع الجيد أن محطات الانتخابات في عمومها تمت وتتم وفق ديناميات واعتبارات داخلية عادة بدءاً من اختيار المرشحين وقوائم البرلمان مروراً بالتحالفات وليس انتهاءً بالوعود والخطابات. بل إن الحملات الإعلامية والسياسية الغربية التي تعرض لها أردوغان، على سبيل المثال، كانت سبباً في التفاف البعض حوله وتصويتهم لصالحه.
في الخلاصة، ثمة خلاصات وإشارات في الانتخابات التركية الأخيرة تحيل إلى متغيرات باتت منحيات ووقائع شبه ثابتة في الخريطة السياسية والحزبية والمجتمعية التركية، ومرشحة لأن تستمر في المستقبل القريب، ولأن تكون مؤثرة في رسم الخيارات المستقبلية وتحديد مآلات بعض الملفات ذات الأهمية والأولوية.