كما كان متوقعاً، صوت البرلمان الأوروبي البارحة بالأغلبية على مشروع قرار بتجميد/تعليق مفاوضات الانضمام مع تركيا مؤقتاً، وهو تطور يعكس مدى التأزم الذي وصلته العلاقات التركية – الأوروبية في الأشهر الأخيرة، لكنه ليس بالضرورة نهاية الطريق.
أقول كما كان متوقعاً، لأن الأسباب السياسية والاقتصادية والثقافية التي أدت إلى “فيتو” لعدد من الدول الأوروبية على عضوية تركيا في الاتحاد أضيف لها مؤخراً عوامل تأزيم إضافية في مقدمتها – إضافة لتصاعد تيار اليمين في أوروبا – الأوضاع في تركيا في فترة ما بعد الانقلاب والتلويح بإعادة حكم الإعدام والتقارب مع روسيا وفشل اتفاق إعادة اللاجئين المبرم بين الطرفين في آذار/مارس الماضي، ثم كانت الإجراءات القضائية ضد نواب حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) القشة التي قصمت ظهرت العلاقاتكما فصلت في مقال لي هنا قبل ثلاثة أسابيع.
في تفاصيل التصويت، أيد مشروع القرار بالتجميد المؤقت لمفاوضات الانضمام 479 نائباً أوروبياً ورفضه 37 فقط بينما امتنع 107 عن التصويت، ولعل في الأرقام دلالة بالغة على مستوى التوتر. في الحيثيات، أحيلت مسوغات القرار على حالة الطوارئ في تركيا إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة والتطورات التي تلت ذلك، كما طرح إلغاء حالة الطوارئ كشرط لإعادة تفعيل مسيرة الانضمام.
أما ردود الأفعال التركية فلم تتأخر أبداً، بل صدر بعضها حتى قبل التصويت على لسان الرئيس اردوغان ورئيس الوزراء يلدرم بأن التصويت – وبغض النظر عن نتيجته – “لا قيمة له، ولن يؤخذ على محمل الجد”. بينما تواترت التعليقات عليه بعد وروده، حيث اعتبر وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو أن “القرار يصغــّر البرلمان الأوروبي والاتحاد الأوروبي”، فيما رأى وزير شؤون الاتحاد الأوروبي عمر تشيليك أنه “تعبير عن فقدان الاتحاد للرؤية، وفي حكم الملغى”، فيما قال نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية بولند توران إنه “ليس من حق الاتحاد الأوروبي المتساهل مع المنظمات الإرهابية إعطاء تركيا دروساً في الديمقراطية”.
قبل الخوض في انعكاسات القرار وارتداداته، تنبغي الإشارة إلى أنه ليس قراراً نهائياً أو ملزماً للاتحاد الأوروبي، فوفقاً للنظام الداخلي يعتبر القرار بمثابة توصية غير ملزمة للمجلس الأوروبي المخول باتخاذ هذه القرار في قمته الدوريةالمقبلة في 15 و 16 من شهر كانون الأول/ديسمبر المقبل.القرار/التوصية من البرلمان إضافة لنسبة التصويت العالية سيكنونان عاملي ضغط على المجلس، لكن ليس من المرجح أن يتخذ الأخير قراراً بتجميد المفاوضات مع أنقرة. فقرارات المجلس، الذييتكون من رؤساء الدول الـ 28 الأعضاء في الاتحاد، تميل للعقلانية السياسية أكثر من المواقف الحادة، ولذا يبدو حريصاً على إبقاء “شعرة معاوية” مع تركيا، أولاً بسبب ملف اللاجئين الذي يؤرقه وثانياً لأن العلاقات تمكنه من الاستمرار في لعب دور ما بينما القطيعة سيتفقده إياه. ويتأكد ذلك من التصريحات التي وردت بهذا الخصوص على لسان المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ومنسقة السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد فيديريكا موغيريني وحتى وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون (الذي كان كارهاً لتركيا ومن قادة حملة خروج بلاده من الاتحاد).
إذن، في حال سارت التطورات كما نتوقع: تصويت باتجاه التجميد من البرلمان ثم عدم إقراره من المجلس، فذلك يعني أن الاتحاد يمارس الضغط على تركيا أكثر من رغبته في قطع العلاقة معها، فكيف كان/سيكون الرد التركي على هذه الضغوط؟
تعرف أنقرة أن موقفها وخطابها وسياساتها خلال هذه الفترة ستكون من العوامل المؤثرة في قرار المجلس الشهر القادم، ولذلك فهي تمزج في ردودها بين التصعيد الكلامي والتهدئة العملية وترك الباب موارباً للعودة عن القرار. فقد أشار وزير الخارجية التركية إلى استعداد بلاده لقبول الانتقادات الأوروبية “بل حتى الاستفادة منها حال اتخذت هيئات الاتحاد مثل البرلمان أو المجلس أو المفوضية قرارات بناءة”. على مستوى الخطاب والتصعيد تلفت الأنظار تهديدات الرئيس التركي بفتح الحدود أمام اللاجئين وإجراء استفتاء شعبي نهاية العام على استمرار تركيا في مفاوضات الانضمام. وأما على الصعيد العملي، فيبدو أن أنقرة قد علقت إلى أجل غير مسمى فكرة إعادة حكم الإعدام التي طالما نظر لها على أنها ستكون المسمار الأخير في نعش الحلم الأوروبي.
فيما يتعلق بالسيناريوهات المستقبلية، فقرار البرلمان كما سبق وذكرنا غير ملزم ولا نهائي، ولا نتوقع أن يقره المجلس، وبالتالي فهو أداة ضغط على أنقرة لا أكثر حالياً رغم ما يحمله من إشارات واضحة على مدى تردي العلاقات والثقة بين الجانبين. لكن، حتى ولو حصلت المفاجأة واتخذ المجلس قراراً بتجميد المفاوضات مع تركيا، فسيكون قراراً مؤقتاً سيما وأنه مشروط بإنهاء حالة الطوارئ وهو ما سيحدث عاجلاً أم آجلاً فاتحاً الطريق أمام العودة للمسار التفاوضي في حال رغب الطرفان بذلك، وهو ما نعتقده.
قد يكون أيضاً من ارتدادات القرار تخفيف الحكومة التركية قبضتها على الحدود سماحاً بتدفق اللاجئين نحو القارة الأوروبية كورقة ضغط في مقابل الضغوط الأوروبية، سيما مع فشل اتفاق الإعادة. لكن من غير المرجح لجوء تركيا إلى فتح حدودها تماماً حتى لا تظهر وكأنها تساوم بملف اللاجئين من أجل مصالحها الذاتية ولأن ذلك قد يعني وأد أي احتمال للعودة عن القرار، وهو ما قد يجعله مطروحاً للنقاش والتفعيل فقط في حال صدر قرار التجميد عن المجلس وليس قبل ذلك.
الانعكاس الثالث للقرار وللمسار السلبي للعلاقات التركية – الأوروبية بشكل عام هو رفد وتدعيم خطوات أنقرة نحو الشرق، أي روسيا ومنظمة شنغهاي للتعاون، بغض النظر عن المحطة النهائية لهذه الخطوات ومآل هذا المسار. بيد تصريحات اردوغان حول الموضوع ثم اختيار تركيا لرئاسة “نادي الطاقة” في المنظمة قبل أيام (وهي سابقة لرئاسة دولة غير عضو) ثم تصريح السيناتور الروسي أليكسي بوشكوف بأن “قرارات البرلمان الأوروبي ضد كل من تركيا وروسيا تؤدي إلى تقاربهما” تحمل دلالات مهمة على هذا الصعيد، في إشارة لتلاقي رغبة أنقرة بتنويع محاور سياستها الخارجية سعياً لشيء من التوازن والمرونة مع رغبة موسكو في احتوائها بعيداً عن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
أخيراً، لا شك أن للقرار انعكاساته السلبية على الاقتصاد التركي الذي يعاني أصلاً من تأثيرات الأزمة العالمية والمحاولة الانقلابية وحالة الطوارئ وتصعيد العمال الكردستاني والتطورات في كل من سوريا والعراق التي انخرطت بها أنقرة مؤخراً بشكل كبير. ذلك أن وصول العلاقات التركية – الأوروبية إلى طريق مسدودة سيعني الكثير لشركاء تركيا الاقتصاديين والمستثمرين الأجانب فضلاً عن أن ذلك سيصعب من موقف الحكومة والشركات التركية في الاتفاقات الثنائية مع الاتحاد والدول الأوروبية.
في الخلاصة، قرار البرلمان مجرد أداة ضغط في السياق الحالي، لكنه يعبر عن أزمة عميقة تفاقمت مؤخراً ووصلت إلى مراحل غير مسبوقة في عهد العدالة والتنمية تحديداً، لكنه قرار ضاغط على تركيا والاتحاد وعملية الانضمام وعلى بوصلة السياسة الخارجية التركية ككل سيما إذا ما أضيف للعوامل المتزامنة والتطورات المتسارعة، فيما يبدو الطرفان – أنقرة وبروكسل – غير راغبين في إيصال الأمر للقطيعة الكاملة ومحافظين على بعض خطوط الرجعة.