داودأوغلو وباباجان ومحاذير الانتحار السياسي
عربي 21، 7 شباط/فبراير 2023
مع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة في تركيا وشبه حتمية تبكيرها لتاريخ الرابع عشر من أيار/مايو المقبل، تضيق الفسحة الزمنية أمام الطاولة السداسية المعارضة لترتيب صفوفها وإعلان مرشحها التوافقي للانتخابات الرئاسية.
قبل أيام، توقع رئيس حزب الشعب الجمهوري – أكبر أحزاب المعارضة – كمال كليتشدار أوغلو أن تعلن الطاولة السداسية عن مرشحها التوافقي في اجتماعها القادم في الـ 13 من شباط/فبراير الحالي، وإن لم يجزم بذلك.
وبالنظر للمواقف المعروفة لأقطاب الطاولة السداسية والتصريحات الصادرة عنهم مؤخراً، بما في ذلك تراشق ومناكفات وسائل التواصل الاجتماعي بين أنصارهم، فمن غير المرجّح أن يُعلن عن اسم المرشح في التاريخ المعلن، هذا بافتراض أن فرقاء الطاولة سيستطيعون التوصل لمرشح توافقي في نهاية المطاف.
لم يعد سراً أن هناك خلافاً عميقاً بين أحزاب الطاولة السداسية وتحديداً حزبَيْها الأكبر الشعب الجمهوري والجيد حول اسم المرشح التوافقي المفترض، مما يصعّب التوافق. لكن إصرار كليتشدار أوغلو على ترشيح نفسه لم يعد خافياً وبالتالي فهو يملك فرصة أفضل من غيره في حال أمكن الطاولة التوافق.
بين أحزاب الطاولة السداسية يتمايز في الموقف حزبا المستقبل برئاسة أحمد داود أوغلو والديمقراطية والتقدم برئاسة علي باباجان، فالأحزاب الأربعة الأخرى معارضة تقليدية وكانت خاضت الانتخابات السابقة تحت اسم “تحالف الأمة” ضد أردوغان والعدالة والتنمية و”تحالف الجمهور”. في المقابل، فالحزبان المذكوران حديثا التأسيس، وقد خرجا من عباءة العدالة والتنمية الحاكم، وكان رئيساهما – داود أوغلو وباباجان – قياديان رئيسان في الحزب والحكومة لسنوات طويلة جداً، بل كان الأول رئيس الحكومة والحزب لما يقرب من سنتين.
ولذلك يحظى موقف الحزبين ورئيسيهما من مسألة ترشيح كليتشدار أوغلو بأهمية مختلفة عن باقي الأحزاب. لم يصدر حتى اللحظة عنهما ما يؤيد هذا الأمر ولا ما يعارضه علانية، وإن بدت بعض الإشارات على ذلك. فباباجان صرح أكثر من مرة أنه “مرشح مناسب وقادر على الفوز” في الانتخابات إن قررت الطاولة السداسية ترشيحه، أما داود أوغلو فقد قال إنه “ليس من حق أي أحد أن يظهر وكأن الطاولة السداسية تتبعه أو تمثل حزبه فقط” في تعريض برئيس الشعب الجمهوري فيما يبدو.
لكن، ورغم ذلك، ثمة احتمال لا بأس بفرصه أن يدعم الحزبان فكرة تقديم كيليتشدار أوغلو كمرشح توافقي للطاولة السداسية وفق معادلة تبقي رؤساء الأحزاب الخمسة الأخرى في مشهد الحكم واتخاذ القرار بعد الفوز المفترض، كنواب للرئيس و/أو وزراء في وزارات سيادية وأساسية.
تقديرنا أن دعم الرجلين، داود أوغلو وباباجان، وحزبيهما لمسألة تقديم زعيم المعارضة مرشحاً توافقياً للانتخابات الرئاسية في مواجهة أردوغان سيكون خطأ كبيراً بل ربما خطيئة سياسية قد تصل لدرجة إنهاء المسيرة السياسية لكليهما، خصوصاً داود أوغلو، وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات.
ذلك أنه إضافة لمركزية الأخير الشديدة في حزبه، فقد حرص حزبه (المستقبل) على تقديم نفسه في إطار الحرص على منطلقات حزب العدالة والتنمية وسنوات تأسيسه والمبادئ التي دافع عنها وتبناها، أي أقرب لمحاولة إصلاحية من داخل المنظومة. ولذلك فهو لا يتناقض في الأفكار والتوجهات الرئيسة وحتى الأيديولوجيا عن العدالة والتنمية، وقاعدته الجماهيرية والتصويتية لا تختلف كثيراً عن قاعدة الأخير، ولذا فهو يسعى لكسب أصوات أنصار الحزب الحاكم.
ولذا، فترشيحه لخصمه التقليدي سياسياً وفكرياً وأيديولوجياً والمتمثل برئيس حزب الشعب الجمهوري يسقط الادعاءات المذكورة وسياق الخروج من الحزب ثم تأسيس حزب جديد، ويظهره وكأنه مدفوع بسياقات انتهازية وانتقامية ومصلحية ضيقة وليس المبادئ التي نسبها لنفسه.
فإن فاز أردوغان في الانتخابات المقبلة، سيكون داود أوغلو – وحزبه – قد خرج خالي الوفاض خاسراً الانتخابات والإطار الأخلاقي والمبدئي الذي وضعه نفسه فيه، وهو ما يعني بقاء الحزب صغيراً على هامش السياسة وربما اندثاره، لسنوات طويلة على أقل تقدير في انتظار مرحلة ما بعد أردوغان.
وحتى لو فاز مرشح المعارضة، كيليتشدار أوغلو في هذه الحالة، فالأغلب أن داود أوغلو سيخرج خالي الوفاض كذلك. إذ لا توجد أي ضمانات حقيقية لدور بارز له في مشهد تركيا ما بعد الانتخابات. فالبلاد سيحكمها رئيس واسع الصلاحيات، وبالتالي سيكون أي نائب له أو وزير في حكومته أقرب لمستشار لا إلزامية لرأيه، لا سيما في ظل الخلافات في التوجهات بين الجانبين إزاء مواضيع وملفات كثيرة وأساسية.
يتحدث أقطاب الطاولة السداسية عن توقيع اتفاق مع مرشحها التوافقي قبل الانتخابات يتعهد بموجبه باستشارة رؤساء الأحزاب الخمسة أو الستة (حسب من هو المرشح) وعدم اتخاذ قرارات مصيرية وحاسمة دون العودة لهم. لكن ذلك سيكون أقرب لالتزام رمزي أو أدبي من المرشح المفترض ولا إلزامية دستورية فيه كما هو واضح. فضلاً عن أن الأحزاب الستة ليست متوافقة على الكثير من الملفات المصيرية والهامة، ما يجعل توافق الرئيس المفترض معها أقرب لحالة متخَيَّلة وغير واقعية.
وقبل هذا وذلك، فإن العقبة الكبرى التي تعترض الحزبين، وبدرجة أقل حزب السعادة الإسلامي، هي إقناع الكوادر والأنصار بالتصويت لزعيم المعارضة في مواجهة أردوغان، ولذلك فإن فرص كيليتشدار أوغلو على وجه التحديد ليست الأفضل في مواجهة أردوغان مقارنة بشخصيات أخرى غير فاقعة من المعارضة.
وعليه، تبقى فكرة تقديم مرشح آخر غير زعيم المعارضة كمرشح توافقي للانتخابات الرئاسية قائمة حتى آخر لحظة، وهو ما تدفع به عدة أطراف في مقدمتها الحزب الجيد. لكن أيضاً من الممكن أن يتقدم من الطاولة السداسية أكثر من مرشح رئاسي في حال لم تصل الأحزاب الستة لاتفاق بهذا الشأن، وهو سيناريو تزداد فرصه يوماً بعد يوم، ولعله اليوم السيناريو الأوفر حظاً أمام الطاولة السداسية في ظل الخلافات القائمة بين أقطابها.
يشير كل ذلك من زاوية ما إلى المعضلة التي تواجه الأحزاب حديثة التأسيس وخصوصاً تلك المنشقة عن أحزاب كبيرة، فمن جهة ليس بإمكانها التحالف مع الحزب المتوافق معها فكرياً وسياسياً وأيديولوجياً لأنها انشقت عنه آنفاً، ومن جهة ثانية تحالفها مع الطرف الآخر يضعها في حرج بالغ ومأخذ “أخلاقي” عليها إذ هي تتحالف مع خصومها التقليديين. ومن الأمثلة على ذلك، إضافة للحزبين المذكورين في المقال، حزب “البلد” المنشق عن الشعب الجمهوري والذي يرأسه محرم إينجة، وبدرجة أقل حزب “الرفاه مجدداً” المنشق عن حزب السعادة ويرأسه فاتح أربكان نجل رئيس الوزراء الأسبق ومؤسس تيار الإسلام السياسي في البلاد نجم الدين أربكان.
بيد أن وضع حزب المستقبل برئاسة داود أوغلو يبدو الأكثر حرجاً ودقة، ويشاركه في ذلك حزب الديمقراطية والتقدم برئاسة باباجان. إلا أن الأخير يختلف عنه من حيث ابتعاده نسبياً عن الخطاب الأيديولوجي ومنطلقات العدالة والتنمية، وضمه أكثر من تيار، وبرنامجه الأكثر ليبرالية (مقابل محافظة حزب المستقبل)، فضلاً عن اسم باباجان اللامع في المجال الاقتصادي والذي يمكن أن يبقيه في المشهد السياسي مستقبلاً حيث إن الوضع الاقتصادي ليس مرشحاً للتعافي الكامل ولا السريع في المدى المنظور.