“داعش” وسايكس بيكو الجديدة

 

ككل الأحداث التناريخية والاجتماعية الكبرى، يبدو أن موجة الثورات التي سميت بالربيع العربي، وما تلاها من أحداث متلاحقة في مقدمتها الثورة المضادة عليها، ستفضي إلى إعادة تشكيل المنطقة ورسم حدودها من جديد، بتأثير عدد من العوامل على رأسها التدخلات الخارجية ومنظمات ما دون الدولة وفي مقدمتها تنظيم الدولة الإسلامية أو “داعش”.

ورغم وجود عدة كتابات غربية قديمة وحديثة تتحدث عن ضرورة تقسيم المنطقة مرة أخرى على أسس عرقية ومذهبية أهمها كتابات برنارد لويس فضلاً عن نظرية الفوضى الخلاقة التي تحدثت عنها كوندليزا رايس، إلا أنه لا يمكن عزاء التطورات الحاصلة اليوم إلى نظرية المؤامرة بشكل كامل، إذ أن هذا النوع من التطورات السياسية والاجتماعية متعدد الأسباب متشابك العوامل مختلف التمظهرات.

 

تنظيم الدولة

ويمكن بنفس الطريقة أيضاً تحليل تنظيم الدولة أو “داعش” بشكل أعمق وأبعد من مجرد ربط ذلك بالعمالة أو تنفيذ أجندات غربية، رغم أن الكثير من مواقفه ومعاركه يغري بهذا التبسيط. ذلك أن “داعش” اليوم ظاهرة متنوعة الأسباب، منها الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والتاريخي والفقهي، كما يأتي في مقدمتها حالة الانقضاض على مسيرة التحول الديمقراطي في المنطقة تحت عنوان الثورة المضادة.

يبدو التنظيم “تطوراً” للفهم السلفي نظرياً من جهة، و”طفرة” محدّثة من أفكار تنظيم القاعدة عملياً من جهة أخرى، لكن مواقفه وخططه وتحركاته على الأرض توحي بفكر مختلف وتطبيق متقدم على كليهما. هو شيء قريب من تزاوج الفكر “الجهادي” مع التخطيط العسكري لحزب البعث في العراق، حيث تتواتر الروايات حول قيادات عسكرية كبيرة من البعث سابقاً في صفوف بل وفي الدوائر القيادية للتنظيم، وهو ما يعطي له شيئاً من الاستراتيجية غير المعتادة لدى التنظيمات “الجهادية”.

من ناحية أخرى، يتقن التنظيم لعبة الإعلام والدعاية عبر استثمار وسائل التواصل الاجتماعي التي يبث من خلالها دعايته المكثفة، متضمنة فيديوهات العمليات العسكرية المبالِغة في العنف والوحشية باعتبار أنها “غلظة على الأعداء”. ويبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي هي الوعاء الذي يجمع الأنصار للتنظيم، بينما تغدو رسالة العنف الوسيلة الجاذبة لهم، في ظل الاحتقان السياسي والمظالم التي تعج بها بلدان المنطقة.

 

الاستراتيجيا العسكرية

بيد أن التفصيل الأهم فيما يتعلق بالتنظيم هو استراتيجيته القتالية التي أثارت الشكوك حول نواياه وارتباطاته. وفي نظرة معمقة على هذه الاستراتيجيا، خصوصاً في سوريا، يمكن تلمس النقاط التالية:

  • الرؤية الرئيسة للتنظيم يختصرها شعاره الشهير “باقية وتتمدد”، إذ يعمد إلى توسيع رقعة سيطرته ونفوذه قبل أي هدف آخر.
  • عمد التنظيم إلى تجنب المواجهة المباشرة مع قوات النظام السوري في غالب المعارك، التي دار معظمها بينه وبين فصائل المعارضة الأخرى، ووصل ذلك إلى حد دخوله معارك ضد فصائل كانت تقاتل في نفس المكان والمعركة قواتِ الأسد.
  • يركز التنظيم على المناطق المحررة من يد النظام السوري، مهاجماً الفصائل التي تسيطر عليها.
  • يرى التنظيم في نفسه الإسلام الحق والدولة القائمة ويعتبر زعيمه أبا بكر البغدادي خليفة واجب البيعة من قبل كل المسلمين، ولذلك فهو يصنف من تباطؤوا في البيعة أو رفضوها مرتدين مستحقين للعقاب، وقد قام بتصفية أعداد كبيرة من المقاتلين بدعوى أنهم “مرتدون”.
  • يعمد التنظيم دائماً إلى الوصول إلى مناطق استراتيجية يستطيع الاعتماد عليها في تسيير شؤونه وأمور دولته، مثل حقول النفط وسدود المياه.
  • يتجنب التنظيم خوض المعارك التي قد تفوق قدرته أو تستفز أعداء جدداً على محاربته، خصوصاً الجيشين المركزيين في سوريا والعراق، وهذا ربما ما يفسر توجهه شمالاً لدى ظهوره في الموصل في شهر حزيران/يونيو 2014 وليس جنوباً نحو بغداد.
  • يعتمد التنظيم سياسة الأرض المحروقة في حروبه، بحيث لا يدخل منطقة إلى بعد قصف عنيف وتدمير المقرات العسكرية وإعدام أي مشتبه به، بحيث يقلل من المعلومات والاستخبارات حوله.
  • لا يتبنى “داعش” السيطرة الثابتة على قطع أرض محددة والدفاع عن حدودها، بل يبدو أكثر إيماناً بالدولة كمعنى مجرد لا ملموس، ولذلك فهو كثير الانسحاب من بعض المناطق التي يتراجع فيها عسكرياً، والتمدد في جهة أو جبهة أخرى، وهو ما قد يسهل توجيهه أو استثماره من قبل مختلف الأطراف ولو بشكل غير مباشر أحياناً. فضلاً عن تشجيعه أنصاره إعلان الولاء وبدء العمل العسكري في مناطق وبلدان بعيدة جداً عن ميدان المعركة الرئيس.
  • يبدو التنظيم مدركاً للمشاريع المنافسة والبديلة في المنطقة ولذلك فهو يحاربها أكثر من النظام السوري مثلاً، الذي يفترض أنه سبب المعضلة، بحيث نالت الفصائل العسكرية والإسلامية الأخرى – ومن ضمنها النصرة القريبة منه فكرياً – وقوات الحماية الكردية التابعة لحزب الاتحاد الكردستاني الحصة الأكبر من المعارك معه، فيما بدت وكأنها معارك تنافس وصراع نفوذ.
  • أخيراً، يعتمد الحزب على سياسة تفريغ بعض المناطق من الأطياف غير المؤيدة له، إما عبر هجرات جماعية كثيفة تحت سيف الخوف منه أو عبر عمليات تهجير منظمة ومقصودة، مما قد يساعده على تشكيل بنية مجتمعية “صافية” له في مناطق سيطرته.

 

المآلات والنتائج

ولئن كان من المتعسر جداً الحكم على النوايا، إلا أن الشواهد والوقائع تغذي الكثير من المخاوف حول التنظيم وأهدافه، سيما إذا ما حاولنا تقييم نتائج معاركه ومآلات سياساته.

فهو يسعى أولاً إلى تجزئة وتقسيم الدول القائمة رغم أن رؤيته المعلنة هي إلغاء الحدود لإقامة دولة أو خلافة، وبذلك يناقض واقعُه كلامَه، يشجعه على ذلك ضعف الدول المركزية والحدود الرخوة.

كما يساهم التنظيم في تأجيج الحالة الطائفية والمذهبية في كل من سوريا والعراق، وهي حالة تستفيد منها إيران وميليشياتها أكثر من أي طرف آخر. ذلك أن سيكولوجيا الأقليات القائمة على الخوف والتقوقع والبحث عن سبل النجاة في محيط الأغلبية تتغذى على خطاب “داعش” ونظرائه وتؤسس لاستمرار انخراط هذه الميليشيات – وحواضنها الشعبية – في المعارك في كل من سوريا والعراق، وهو عين ما ألمحت له الخطط الغربية منذ عشرات السنين، أي تقسيم المنطقة على أسس إثنية ومذهبية وطائفية.

كما يمكن ملاحظة توريط التنظيم لكثير من المناطق وساكنيها، بحيث يفتعل معركة بعيدة عن خط المواجهة بين النظام السوري وفصائل المعارضة، بحيث يستجلب لها القوات الكردية أو الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً أو القصف الدولي، ثم يتركها لمصيرها، الذي يغلب عليه عادة الانتقام من أهل المنطقة وإحكام السيطرة عليها، وقد تكرر ذلك أكثر من مرة.

كما أدت سياسات ومواقف التنظيم على مدى سنوات الثورة السورية الأربع إلى إضعاف الفصائل المنهاضة للنظام وتقوية الأخير والتخفيف عنه في معظم المعارك، رغم أنه واجهه في معارك أخرى اقتضتها مصلحته. والحال كذلك، يمكن رؤية التنظيم كأحد أسباب استمرار صمود الأسد حتى اليوم.

في الخلاصة، يبدو تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” حالة مغالية في التشدد الفكري والتكفير ورفض الآخر، وفصيلاً عسكرياً لا يرى إلا مصلحته وزيادة رقعة نفوذه بغض النظر عن انعكاس مواقفه وسياساته على واقع الثورة السورية أو المشهد العراقي، إذ يرى الحدثين هاشميين جداً مقارنة بخطته الرئيسة، أي إقامة دولته.

إن حالة مغرقة في التشدد كهذه، تسعى إلى اجتذاب الشباب من كل أنحاء العالم، ولا تتورع عن التعاون مع أي كان ولو اختلف معها فكرياً – مثل قيادات البعث العراقي – في براغماتية غريبة على الإسلاميين والجهاديين منهم خاصة، لهي حالة قابلة للاختراق المباشر أو التوجيه غير المباشر، وهو ما رأيناه من واقع التنظيم مراراً وتكراراً، حين أعلن هو بنفسه عن إعدام بعض قياداته العسكرية أو الأمنية أو الشرعية بدعوى الاختراق. بينما لا يمكن – على اليد الأخرى – قبول سلامة الطوية في عمليات التفجير التي طالت مجتمعات بعيدة عن أرض المعارك، مثل حوادث تفجير المساجد في كل من الكويت والسعودية.

إن كل الدراسات والمقالات التي دبجت عن التنظيم ما زالت عاجزة عن سبر كل أغواره وإدراك بنيته وأهدافه وسياساته ومراميه بعيدة المدى، سيما وأن السياسات المحلية والإقليمية والدولية في غير بلد ما زالت تغذي الأسباب التي ساهمت في نشوء التنظيم وانتشاره. كما لا يمكن إغفال مدى التشويه والتشويش الذي يتسبب به التنظيم حول فكرة الإسلام كدين والمسلمين كأمة، من خلال رسالة العنف والتشدد وبشاعة القتل التي يتعمدها، وهي السياسة التي دعمت وأيدت ادعاء الأسد حول مفهوم “الإرهاب”، وأدت – ضمن عوامل أخرى – إلى تحول السياسات الإقليمية والدولية من مناهضة الأسد إلى التعاون معه ضد تنظيم الدولة.

إلا أن إحدى الحقائق القليلة الماثلة أمامنا هي أن هذا التنظيم بما يخطه من سياسات يساهم مساهمة فعالة في إعادة ترسيم خريطة المنطقة وحدود بلادها، لكن ليس نحو توحيدها في دول أكبر وأقوى (كما هي أدبيات الإسلاميين عموماً)، بل في اتجاه دويلات عرقية وطائفية صغيرة مشتتة تخدم أكثر ما تخدم أعداء هذه المنطقة وبلدانها وشعوبها.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

هل انزلقت تركيا للمستنقع السوري؟

المقالة التالية

ناجي العلي وحنظلة ونحن، من الذي مات؟

المنشورات ذات الصلة