بات التسجيل الذي بثته جماعة أنصار بيت المقدس (أو باسمها الجديد ولاية سيناء) تحت عنوان “صولة الأنصار” حديث الساعة في مصر، بل وربما الوطن العربي، لما تحمله من دلالات هامة وتأثيرات مباشرة وغير مباشرة على سيرورة الأحداث في مصر.
ومن بداهة القول أن أهمية التسجيل لا تكمن في عدد الجنود المقتولين أو العتاد الذين “غنمته” الجماعة منهم، بقدر ما يتركز في إعلان البيعة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وزعيمها أبي بكر البغدادي تحت اسم “ولاية سيناء”، ثم تبني المسؤولية عن عدد من العمليات التي وجهت لمراكز أو وحدات أو جنود من الجيش المصري خلال الفترة الأخيرة.
مبدئياً، فجزء غير يسير من الصدى الذي حظي به التسجيل يعود لنقطتين مهمتين. الأولى تتعلق بتفاصيل أظهرت ضعف الجندي/الجيش المصري، من خوف وهروب وعدم جاهزية وقلة تسليح وضعف إعداد، أو سوء تواصل وغياب التأمين والحماية، الأمر الذي أدى – وفق التسجيل – إلى قتل العشرات من الجنود و”غنم” أسلحتهم، إضافة إلى الاستيلاء على عدد من الآلات والدبابات. أما الثانية فكانت في الخطاب الموجه لأفراد الجيش بعدم الانصياع لأوامر السيسي الذي وصف بالطاغية والفرعون، ثم التوعد بالمزيد واعتبار كل ما في التسجيل مجرد جولة أولى ولذلك أعطي اسم “صولة الأنصار”.
لكن اللافت للنظر – إلى جانب التسجيل – هو حالة اللامبالاة إن لم نقل التأييد بين أطياف واسعة من الشباب المصري تحديداً، لا من باب التشفي بدماء الجنود المقتولين، ولكن من زاوية تحميل السيسي وقيادات الجيش مسؤولية ما حدث ويحدث وسيحدث، لهؤلاء الجنود وغيرهم، بسبب سياسات الدولة المتبعة إزاء سيناء خاصة ومصر عامة.
فجنود الجيش المصري وبأوامر من قياداته – وعلى رأسهم السيسي – قتلوا المصلين السُّجّد في العريش بُعيد الانقلاب، وهم أنفسهم – أو زملاء لهم – جرفوا وهدموا بيوت المواطنين في عدة مناطق (على رأسها الشريط الحدودي مع فلسطين) وهجروا أهلها. كما أن السياسات الرسمية هي من همّشت سيناء طيلة عشرات السنوات حتى شعر أهلها أنهم مواطنون من الدرجة الثانية (إن شعروا أصلاً أنهم مواطنون مصريون)، وهي من تركت سيناء خاصرة رخوة للدولة المصرية، وهي نفسها وبقرار من السيسي من دخلت في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة أو ما يسمى الإرهاب، الأمر الذي أطلق يد الجيش أكثر وأكثر في سيناء قتلاً وظلماً وتهجيراً، وكأن المطلوب تفريغها من أهلها لتنفيذ سياسات ومصالح دولة الكيان لا الشعب المصري، فضلاً عن التضحية بالجنود المصريين في المستنقع الليبي إرضاءً “للكفيل” الخليجي.
من ناحية أخرى، يظهر التسجيل أن أعداد المشاركين في العمليات قليلة جداً وأسلحتهم غير ثقيلة ولا نوعية، وهو ما دفع العديدين – غير ملامين على ذلك ربما – للتشكك بالتسجيل وصحته، سيما أنه يحمل بعض علامات الاستفهام المتعلقة بأماكن التصوير وتوقيتاتها والمتكلمين أو المشاركين بها ولهجاتهم وتوقيت التسجيل وارتباطه بإعلان البيعة للبغدادي، إلى غير ذلك من التفاصيل التي لا يمكن الجزم بصحتها أو عدم صحتها.
علامات الاستفهام هذه لا تعني بالضرورة دقة فرضية الاختلاق أو الاختراق رغم منطقية واحتمالية ورودها، بل ربما تشير إلى إمكانية حصول نوع من التسهيل السابق على العمليات أو الاستثمار اللاحق لها، أو مزيج من كل هذه الفرضيات، لتحقيق مصالح غير خافية لنظام الانقلاب، رغم أن التسجيل ينال من سمعة وهيبة الجيش وقادته وعلى رأسهم السيسي. ذلك أن “الإرهاب” من أكثر ما ترغب به الكثير من الأنظمة والقيادات، لما توفره من دعم داخلي وخارجي ومسوغات البقاء في الحكم وتطبيق قوانين الطوارئ وما تدره من أموال صفقات السلاح وغيرها.
من هنا، لا يبدو السيسي في خشية من أي محاسبة أو اعتراض أو حتى عتب ولفت نظر لفشل الدولة والجيش في السيطرة على الأوضاع في سيناء أو حماية أرواح الجنود، فهو يملك زمام وسائل الإعلام من خلال ما يملك من آليات الترغيب والترهيب الكثيرة، وعلى ذلك لا تبدو الهيبة الضائعة للجيش ذات بال، بل قد يتم استثمار التسجيل لتحقيق عدد من الأهداف تحت سيف التخويف بما هو قادم على يد “الإرهابيين”.
سيكون في إمكان السيسي لعب ورقة “العدو” ليجمع الناس خلفه مرة أخرى ويجدد ثقة الشعب به – اختياراً أو اضطراراً أو تلفيقاً – بعد تراجع شعبيته الملحوظ، وسيكون بإمكانه أن يبطش بيد أكثر حديدية وشدة بالمظاهرات المستمرة في مختلف المدن المصرية بذريعة مواجهة الإرهاب وأن “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، إضافة إلى تسويق نفسه ونظامه للولايات المتحدة الأمريكية للضلوع أكثر في الحرب على ما يسمى الإرهاب لكسب شعبية دولية أكبر ولو كان ثمنها دماء الشعب المصري وجنوده.
ولئن كانت الأحداث ما زالت غامضة والكثير من تفاصيلها طي السرية، إلا أن عدداً من السيناريوهات يلوح في الأفق، وفق معطيات الحدث الآني على الأقل:
السيناريو الأول، والأقرب للتحقق، هو ازدياد عمليات أنصار بيت المقدس أو ولاية سيناء بعد هذا التسجيل، على اعتبار أن أحد أهم الأهداف لنشر هذا النوع من الفيديوهات يكون عادة الإعلان عن الذات والدعاية بين الشباب، فيمكن لنا أن نتوقع أن يكون هناك إقبال بمستوى ما من الشباب المصري عليهم. لكن الوجهة والاستراتيجية التي يمكن أن تتبعها المجموعة تبقى محاطة بعلامات استفهام كبيرة. فمن ناحية، لا يبدو المشهد المصري قريباً من المشهد السوري أو العراقي، فما زالت القبضة الأمنية العسكرية ممسكة بزمام البلاد بدرجة كبيرة ولذلك لا يتوقع لولاية سيناء الخروج من سيناء نحو المدن المصرية إلا ما ندر وقــَرُب، فهي تنشط وتتمدد حيث تضعف الدولة المركزية وتنمو في الفراغ الحادث. وبذلك، قد تصبح المجموعة إحدى الحقائق الثابتة في سيناء دون التحرك إلى ما هو دونها، ويبقى “الاستنزاف” طويل المدى هو الذي يحكم المشهد.
السيناريو الثاني قد يظهر لنا استثماراً جيداً من النظام المصري لرسالة الخوف التي تضمنها التسجيل، بزيادة وتيرة تفريغ سيناء وتشديد القبضة الأمنية واستقدام تعزيزات لمواجهة الجماعة. وقد يكون السماح ببعض هذه العمليات (في حال كانت فرضية “التسهيل” صحيحة) مجرد مقدمة لبدء مرحلة جديدة من الصراع مع الجهاديين في سيناء أعنف بكثير من كل ما سبق وأعلى سقفاً منه.
السيناريو الثالث، وهو السيناريو الأكثر كارثية، هو تدويل القضية بدرجة أو بأخرى باعتبار أنها جزء من الحرب الدولية الحالية على “الإرهاب”، إما باستقدام قوات دولية أو بترتيبات معينة مع دولة الاحتلال وفق تعديلات معينة في اتفاقية كامب ديفيد، تؤدي إلى خسارة مصر نهائياً لسيناء وأهلها، واستهداف غزة بصورة أكبر من ذي قبل، حصاراً وإغلاقاً تاماً، أو تحضيراً لمواجهة مقبلة.
وفي كل الأحوال، يبدو المشهد ضبابياً ومكتنفاً للأسئلة أكثر من تقديمه إجابات واضحة حول المستقبل القريب. فلحظة الدهشة الأولى قد يتبعها نقاش حول مآلات الأمور، خاصة من جانب “ولاية سيناء” التي تنتمي فكرياً لتنظيم الدولة، وقد يبدو مفيداً – ومخيفاً في ذات الوقت – تذكر كيف بدأ التنظيم في سوريا والعراق وإلام انتهى، من مواجهة النظام وامتلاك الحاضنة الشعبية إلى محاربة المعارضة وتجنب النظام وإذاقة الويلات للشعب. وعلى ذلك قد يبدو التفهم الأولي المنطلق من الغضب على سياسات الانقلاب في غير مكانه لاحقاً إذا كانت الاستجارة من رمضاء السيسي بنار “داعش” التي تحرق الجميع عادة، بادئة بالأقرب.
فالمنظومة الفكرية التي يقوم عليها التنظيم والداعية إلى تطبيق الشريعة والحدود و”الحكم بما أنزل الله” بغض النظر عن الظروف والسياقات والإمكانات تشي بسيناريو مشابه لما يتم تداوله في سوريا والعراق. بينما، من ناحية أخرى، يجب طرح أسئلة واضحة حول المسار الذي سينتهجه التنظيم في ظل ضعف احتمالات توجهه نحو العمق المصري، وفي ظل اعتباره “كل” الأنظمة كافرة لا تحكم بشرع الله إضافة إلى بدئه بالمعارك الأسهل والأكثر استيراتيجية بالنسبة له، فهل يكون التوجه هو السيطرة على معبر رفح أو محاولة الانتقال – فكرياً أو واقعياً – نحو قطاع غزة؟
كلها أسئلة مشروعة ربما لن يمتلك أحد الإجابة على معظمها في الوقت الراهن، لكن الثابت والأكيد أن المشهد المصري لم يعد كما كان سابقاً، وبغض النظر أكان التسجيل صحيحاً مئة بالمئة أم يكتنفه بعض الاختلاقات – من أحد الطرفين – فإن عنوان المرحلة المقبلة سيكون الحرب على الإرهاب حصراً، وهو ما سيلقي بظلاله على كل تفصيلة في المشهد، وعلى رأسها الحراك الشعبي في الشارع المصري، تماماً كما كان حمل السلاح اضطراراً في سوريا عنواناً لمرحلة جديدة حلت مكان الحراك السلمي تدريجياً (رغم الفوارق الكبيرة حالياً بين المشهدين)، وهو ما يؤكد ضرورة القيام بمراجعات وإعادة تقييم للمشهد برمته، لجهة السياقات والتمظهرات والمآلات المستقبلية، لعدم البقاء في خانة رد الفعل وامتلاك المبادرة، ولو لمرة واحدة، قبل أن تضيع الفرصة وإلى الأبد.