حصل إذن – وأخيراً – ما كان متوقعاً، وخرج علينا الصديقان اللدودان كيري ولافروف في مؤتمر صحافي مع المبعوث الأممي دي ميستورا، للحديث حول اتفاق وصلا إليه لحل سياسي ضمن إطار زمني محدد للأزمة السورية.
الخطة التي أعلن عنها وزيرا الخارجية تتضمن وقفاً وشيكاً لإطلاق النار “تضمنه الدولتان” في سوريا، تبدأ بعده فترة انتقالية تتضمن مفاوضات مباشرة بين النظام و”المعارضة المعتدلة” تحت إشراف الأمم المتحدة لستة أشهر، ويتخللها إصلاحات دستورية على مدى 18 شهراً تجرى في نهايتها انتخابات رئاسية. ولئن كانت هذه بنود متوقعة لأي حل سياسي وشيك بين الطرفين، إلا أن الجديد و/أو المثير في الاتفاق هو النقاط التالية:
أولاً، عدم اشتراط رحيل الأسد مع الفترة الانتقالية أو في ختامها، وترك ذلك “ليقرره الشعب السوري” وفق تعبير لافروف، رغم أن كيري ذكر خلال إجابته على أحد الأسئلة أن الأسد “لم يعد لائقاً لقيادة بلاده لأنه عاجز عن قول الحقيقة”، وهو تراجع إضافي لموقف المحور الأمريكي من الحل.
ثانياً، الإعلان عن إعداد قائمة بالمنظمات “الإرهابية” التي لن تقتصر على جبهة النصرة وتنظيم الدولة للتصدي لها، وقد تمت الإشارة أكثر من مرة إلى أن هذه القائمة – التي سيساعد الأردن في إعدادها – ستشمل الفصائل التي تعارض هذا الحل وتستمر في القتال.
ثالثاً، تهديد مبطن للدول الداعمة للفصائل السورية المعارضة بالاتهام بدعم الإرهاب إذا ما استمر دعمها بعد وقف إطلاق النار وإطلاق العملية السياسية، سيما وأن كيري تحدث عن ضرورة استصدار قرار من مجلس الأمن بخصوص الخطة الزمنية وبنودها.
ورغم الكثير مما قد يقال حول المسكوت عنه في الاتفاق أو النصوص حمالة الأوجه التي يمكن لكل طرف تفسيرها كما يريد، أو حتى حول فلسفة الاتفاق الذي أعلن أنه لا يفرض الحل على الشعب السوري صاحب القرار إلا أنه يتوعد من يخالف الاتفاق بالتصدي له تحت لافتة مكافحة الإرهاب، رغم كل ذلك إلا أننا أمام مرحلة جديدة فيما يبدو عنوانها الحل السياسي المتفق عليه بين “الكبيرين”، مما سيضع الكثيرين – محلياً وإقليمياً – أمام ضرورة بلورة مواقف إزاءها.
نتحدث هنا عن الفصائل السورية المتواجدة على الأرض وعن داعميها الإقليميين، تحديداً الثلاثي تركيا – السعودية – قطر، التي وإن كانت عاجزة ربما عن حسم المعركة العسكرية إلا أنها قادرة على إفشال الحل السياسي أو عرقلته أو تعديله باعتبار وجودها الميداني ونفوذها المحلي.
في الخصوصية التركية، ينبغي أن نتذكر أن سياسة أنقرة السورية قد تعرضت لعدة انتكاسات ولم تستطع إحراز أي اختراق نحو إنفاذ رؤيتها للحل في سوريا، بل فوتت عدة فرص متاحة وفق الكثيرين (قبل ظهور تنظيم الدولة، ثم قبل التدخل الروسي، ثم قبل الاتفاق الأخير)، فما الموقف المتوقع منها الآن؟ وما الذي تملكه من أوراق؟
ابتداءً، لا شك أن هذا الاتفاق لا يرضي طموح أنقرة حتى في الحد الأدنى لرؤيتها في سوريا – عدم اشتراط رحيل الأسد بعد الفترة الانتقالية – وبالتالي فإن الموقف التركي المباشر يفترض أن يكون رفض الاتفاق على الأقل بهذه الصيغة. بيد أن الفترة الأخيرة كانت قد شهدت عدة مراجعات وتراجعات للسياسة الخارجية التركية في المنطقة وخاصة في سوريا، تحت ضغط الملفات الداخلية والتدخل الروسي العسكري، مما جعلها مرة أخرى محتاجة لواشنطن وبالتالي أقرب إلى مواقفها وسياساتها من ذي قبل.
الخيار الثاني هو أن تقبل تركيا الاتفاق من ناحية المبدأ – الحل السياسي والفترة الانتقالية – لكن أن تعترض على بعض التفاصيل أو تطلب تعديل بعض البنود، وهو أمر متوقع ويمكن أن يصدر عن أنقرة بشكل مباشر أو عبر ائتلاف قوى المعارضة السورية من باب “نرضى بما يرضى به السوريون”، وإن كانت الاستجابة الأمريكية – الدولية لهذه التحفظات ستكون موضع شك.
الخيار الثالث هو إعلان تركيا قبولها الحل السياسي المبرم في العلن، واستمرار دعمها للمعارضة السورية في السر وتحت الطاولة، وباعتبار أن هذا الدعم لن يخفى على الأطراف الإقليمية والدولية، فيتوقع لسقفه أن يتراجع كثيراً كماً ونوعاً.
الخيار الرابع هو القبول التركي غير المتحفظ بالاتفاق والانخراط في تطبيقه، بما يعني وقف الدعم عن المعارضة السورية والضغط عليها للقبول والمشاركة، وهذا خيار مستبعد لأنه يفقدها – ويفقد شركائها – أوراق الضغط والقوة في الملف السوري دون ضمانات واضحة بتحقيق أي إنجاز ضمن الإطار السياسي المعلن.
إذن، قد لا يخرج الموقف التركي عن الخيارين الثاني والثالث، فإما طلب تعديلات على الاتفاق تجعله مقبولاً من قبلها وقبل المعارضة السورية، أو الإعلان عن دعمه لكن دون تغييرات جوهرية في موقفها من المعارضة. وهي هنا تملك ورقتي قوة لا يمكن الاستهانة بهما رغم أنهما غير حاسمين بمفردهما:
الأولى، استحالة فرض الحل السياسي رغماً عن الفصائل السورية على الأرض، فمعظم الفصائل السورية وخاصة تلك الكبيرة والمؤثرة في المشهد السوري لن تستطيع بسهولة “تجرع هذا الاتفاق” فضلاً عن أن تنخرط في “محاربة الفصائل الإرهابية والرافضة للاتفاق”. فهذا العامل المحلي هو المحدد النهائي لنجاح الاتفاق أو فشله أو تعديله.
الثانية، التنسيق الجيد مؤخراً مع كل من السعودية وقطر، واللتين يتوقع أن يكون موقفهما مشابهاً لموقف تركيا أو قريباً منه. فإذا ما استطاعت هذه الدول الثلاث – باعتبارها الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة والرافضة لبقاء الأسد – موقفاً مشتركاً وقوياً، فسيقلل ذلك بالتأكيد من الضغوط الممارسة على كل طرف على حدة، ويزيد بالتالي من فرص التأثير على الاتفاق ككل، خصوصاً وأنه سيكون متسقاً مع مواقف الفصائل المحلية على الأرض.
في المحصلة، قد لا تقول النصوص الكثير ويبقى الشيطان كامناً في التفاصيل، فهذه الثورة التي تحولت إلى صراع مسلح عمَّق الأزمة على مدى سنوات طويلة لا يتوقع أن يحله اتفاق أبرم بين روسيا والولايات المتحدة في إحدى الأمسيات بهذه السهولة. ولئن كان لهاتين الدولتين أوراق ضغطهما وتأثيرهما على اللاعبين المحليين والإقليميين، يبقى للأخيرين أيضاً ما يقولونه في الأمر، وهو ما سنتلمس ملامحه في الأسابيع والشهور القادمة الحافلة بالكثير.