حول “المحور” التركي – الروسي المزعوم
عربي بوست
ثمة استسهال كبير في العالم العربي – لأسباب كثيرة – في إطلاق صفات “المحور” و”الحلف” على أي تقارب بين دولتين أو مجموعة دول، رغم أن الأمر بات من أصعب ما يكون بعد انتهاء الحرب الباردة وعدم استقرار النظام الدولي “الجديد”. كما أن مقومات ذلك، أي الشروط المطلوبة أو العوامل المساعدة على نشوء محور ما متعذرة إلى درجة كبيرة، فضلاً عن تشكيل حلف ما يحتاج إلى رؤى متطابقة ومعاهدات موقعة وما إلى ذلك.
في السنوات القليلة الأخيرة دأب الكثيرون على إطلاق اسم “المحور التركي – السعودي” على محاولات أنقرة التقارب مع الرياض للتعاون في سوريا وموازنة الدور الإيراني في المنطقة، رغم أن الأمر كان يفتقر إلى أدنى مقومات الوصول لحالة “المحور” (فضلاً عن الحلف مرة أخرى)، وللأمر تفاصيل أبعد من نطاق هذا المقال.
مؤخراً، ينحى الكثيرون (ومن بينهم بعض “الكثيرين” السابقين أعلاه) لوصف التفاهمات بين تركيا وروسيا في سوريا على أنها محور تركي – روسي، رغم أنها مجرد تفاهمات لا ترقى حتى للتعاون الوثيق. ولعله من المفيد الإشارة للعوامل الأربعة الرئيسة التالية في فهم العلاقات بين الطرفين:
1- الدولتان “عدوتان” تاريخياً، منذ أيام الدولة العثمانية وروسيا القيصرية وطوال فترة الحرب الباردة. ورغم أن لهذا التاريخ أسبابه التي ما زال بعضها قائماً، ولكن حتى التاريخ نفسه وبحد ذاته يلعب دوراً في سياسات الدول الخارجية وفق النظرية البنائية (Constructivism) في العلاقات الدولية.
2- الدولتان على تضاد في الرأي والموقف في سوريا وليسا متطابقين. في الأصل، فإن الإطار الثلاثي لوقف التصعيد الذي يجمعهما مع إيران قام لأنهما يتبنيان رأيين مختلفين ويدعمان طرفين متواجهين في المشهد السوري، وليس العكس.
3- الملفات الخلافية (والتنافس) بين الطرفين كثيرة جداً، من النفوذ في البحر الأسود إلى آسيا الوسطى إلى القوقاز (ناغورني كاراباخ) إلى ملف القرم إلى القضية السورية. الأهم – الذي لا يتنبه له الكثيرون – أن موسكو ليست على توافق مع أنقرة على الملف الكردي الذي يشكل أولوية السياسة الخارجية التركية مؤخراً، فهي لا تصنف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية وما زالت تسعى لإشراك حزب الاتحاد الديمقراطي في مسار أستانا و”الحوار الوطني السوري” الذي بدأ في سوتشي.
4- وطبعاً رغم التقارب والتنفاهمات، فما زالت تركيا عضواً في حلف الناتو الذي تحاول روسيا احتواءها بعيداً عنه قدر الإمكان، بالتفاهمات في سوريا وبالمشاريع الاقتصادية الضخمة مثل محطة “أككويو” للطاقة النووية (20 مليار دولار) ومشروع “السيل التركي” للغاز الطبيعي (7 مليار دولار)، إضافة للسلاح الاستراتيجي وفي مقدمته منظومة إس400 الدفاعية الصاروخية.
وللتدليل على الافتراق في الرؤى والمصالح في سوريا رغم التفاهمات، يمكن ملاحظة التالي:
أولاً، تريد روسياً حلاً وفق مسار أستانا قدر الإمكان بحيث تكون هي “المايسترو” الذي يرسم الطريق وسقفه ومراحله ومآلاته بعيداً عن الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بينما ما زالت تركيا تراه مساراً مكملاً لجنيف وليس بديلاً عنه، وهذا يعني الكثير.
ثانياً، وكسبب لما سبق فإن تركيا ما زالت تختلف مع روسيا (وإيران) حول ملفات أساسية في القضية السورية وفيما يتعلق بالحل السياسي في مقدمتها مصير الأسد، حيث ما زالت أنقرة ترى ضرورة رحيله وألا مكان له في سوريا المستقبلية، وهو موقفها الذي لم يتغير رغم أنه يغيب بالتأكيد عن بيانات اجتماعات أستانا والقمم الثلاثية التي تصاغ بالتوافق. وقد عاد هذا الموقف للعلن مرة أخرى بعد القصف بالسلاح الكيماوي في دوما مؤخراً، حيث بدت تركيا – لأول مرة منذ فترة طويلة – أقرب للموقف الأمريكي – الغربي منها للروسي، مُطالِبة بالتحقيق ومعاقبة النظام بعد توجيه أصابع الاتهام له.
ثالثاً، رغم التفاهمات التي سهلت لتركيا تنفيذ عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون في سوريا، إلا أن تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مؤخراً حول ضرورة “تسليم تركيا عفرين للنظام” ورد اردوغان الرافض عليها تعد مؤشراً مهماً على افتراق الرؤى والأولويات بين الطرفين. ولعله من المهم التذكير بأن روسيا ما زالت لا تريد سيطرة تركيا على تل رفعت ومطار ومنغ ضمن عملية غصن الزيتون، كما كانت عرقلت عملية درع الفرات في حينها مرتين من خلال تحريك النظام السوري.
في المحصلة، ليس ثمة محور تركي – روسي فضلاً عن أن يكون هناك حلف بينهما. هناك مصالح ومهددات مشتركة أنتجت تفاهمات تخدم الطرفين، لعل في مقدمتها – بالنسبة لأنقرة – تجاهل الولايات المتحدة (وحلف الناتو) حساسياتها الأمنية ومخاطر مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا عليها، والمصالح الاقتصادية والتجارية والسياحية، وسيطرة روسيا الميدانية في سوريا ونفوذها على النظام، وتأمين السلاح الذي يبدو أن عليه “فيتو” أوروبي وأمريكي غير معلن بخصوص تركيا.
وبالتأكيد فلروسيا مصالح أساسية بالتقارب مع تركيا الذي هو بالأساس احتواء لعضو مهم في حلف الناتو حيث تمثل تركيا ثاني جيش فيه والدولة “العازل” عن الشرق الأوسط (وأزماته ومهاجريه) ومن الأقرب جغرافياً لروسيا الخصم الأول للحلف. إضافة طبعاً لأهمية الدور التركي وعلاقاتها مع المعارضة السورية السياسية والمسلحة في تحقيق وقف إطلاق النار والتمهيد للحل السياسي للقضية السورية.
لا شك أن الإطار الثلاثي بين روسيا وتركيا وإيران يحمل إمكانات التطور لاحقاً ليشكل “أرضية” أو إرهاصات لتشكيل محور “شرقي” في المنطقة في حال استمرت العلاقات المتوترة للغرب مع هذا الثلاثي وخصوصاً تركيا، لكن توصيف التنسيق الحالي بين ههذ الدول الثلاث على أنه “محور” وفق المعطيات الحالية يبدو ضرباً من المبالغة لا أكثر.
أخيراً، في ظل تسارع الأحداث في المنطقة وفي العالم بشكل أقل حدة، يكون من المنطقي توقع تبدل الاصطفافات والانحيازات والانزياحات لدى الدول ومن الذكاء عدم التسرع والمسارعة نحو مصطلحات المحاور والتحالفات والأحلاف، فالسيولة والغموض الشديد وضبابية المستقبل باتت من أهم مفاتيح فهم – أو عدم فهم – أحداث منطقتنا اليوم وحتى إشعار آخر.