حوار مفتوح مع الكاتب والباحث سعيد الحاج
عن أولويات تركيا في سوريا وخياراتها وتحالفاتها
الدرر الشامية
تطوُّرات كثيرة ومتعارضة شهدها الملفّ السوري، والمنطقة بشكل عامّ، وانعكست بطبيعة الحال على العلاقات بين الدول العالمية والإقليمية الفاعلة في هذا الملفّ، وتبدلت من تعارُض إلى تنسيق والعكس، فقد شهد عام 2015 توترات غير مسبوقة بين تركيا وروسيا من جهة على خلفية إسقاط طائرة حربية روسية، وبين تركيا وإيران من جهة أخرى وصلت إلى حدّ التهديدات العلنية، إلا أن الأطراف الثلاثة يجمعها اليوم مسار واتفاق ثلاثي مشترك، متمثل في أستانة.
واستضافت “شبكة الدرر الشامية” في حوار مفتوح، الكاتب والباحث العربي المتخصص بالشأن التركي “سعيد الحاج” للحديث عن أولويات أنقرة في الملف السوري، وما خياراتها الحالية، وأين وصلت علاقاتها وتحالفاتها مع مختلف الأطراف بما فيها المعارضة السورية.. الحوار كاملًا:
– ما أولويات تركيا في سوريا؟
الحاج: هناك ثلاث أولويات وهي على الترتيب كالتالي:
الأولوية الأولى: منذ أشهر طويلة ولربما منذ سنتين، أولوية تركيا في سوريا وبشكل عامّ في سياستها الخارجية، منع إنشاء كيان سياسي للأكراد في سوريا تحديدًا حزب الاتحاد الديمقراطي، ومعروف أن تركيا تعتبر ذلك خطًّا أحمر في مفهوم الأمن القومي بسبب علاقة الحزب العضوية مع العمال الكردستاني، بالتالي ترى أن قيام أي ممر أو دويلة أو كانتون في سوريا سيكون منصة للتدريب وإطلاق العمليات ضدها، وحاجزًا جغرافيًّا واستراتيجيًّا بينها وبين سوريا والعالم العربي من جهة أخرى، وأيضًا سيؤدي ذلك إلى تعقيد الملف الكردي الداخلي، ورأينا كيف كانت عملية درع الفرات، والكثير من القرارات التركية تفسرها هذه الأولوية.
الأولوية الثانية: إنهاء الصراع أو النزاع في سوريا عبر حل سياسي تفاوُضي، باعتبار أن الأزمة استهلكت سوريا والشعب السوري وأضرارها وصلت إلى تركيا وغيرها من الدول، ومن هنا أتى مسار أستانة الذي ترعاه تركيا وروسيا وإيران إلى جانب مسار جنيف، بمعنى مسار أستانة يهدئ الوضع الميداني ليسمح باتفاق معين وفق مسار جنيف وهذه هي الرؤية التركية.
الأولوية الثالثة: وهي تأتي في درجة متأخرة عن الأولويتين السابقتين وهي استمرار العلاقات الجيدة مع المعارضة السورية سواء السياسية أو العسكرية، بالنهاية النفوذ أو الأوراق على الأرض هي التي تعكس قوة الأطراف على طاولة التفاوض، وتركيا أفضل الأوراق التي تمتلكها هي وجودها العسكري في سوريا، والعلاقة الجيدة مع طيف واسع من المعارضة السورية، فوضعها وعلاقتها معها تنعكس على قوة تركيا في فرض شروطها وتحقيق مصالحها سواء في أستانة أو جنيف.
– الخيارات التركية في سوريا
الحاج: دعني أضع عنوانًا عريضًا بعد كل هذه التطوُّرات التي حصلت في سوريا “تركيا من الخاسرين نسبيًّا في سوريا”، لكنها تحاول قدر الإمكان في قراراتها وعلاقاتها أن تقلل من هذه الخسائر، وأعتقد أن تركيا تتعامل في الأزمة السورية بعد الأولويات الثلاث التي ذكرتها وفق ملفات تكاد تكون منفصلة أحيانًا ولكن مترابطة مع بعضها، بمعنى أن تركيا لديها رغبة في أن تواجه حزب الاتحاد الديمقراطي في عفرين وتنهي سيطرته على تلك المنطقة، وترغب بإخراجه من منبج بعد عدم وفاء الولايات المتحدة بوعودها بإخراجه منها، وهناك خيار إدلب ومعروف أنه في أستانة 6 كان هناك اتفاق روسي إيراني تركي على كيفية إدارة المنطقة وإدخالها ضِمن خفض التصعيد وملفات كثيرة أخرى، لكن بالنهاية واضح جدًّا أن تركيا تتعامل مع النظرة الإقليمية والدولية للأزمة السورية على أنها لم تعد ثورة أو حربًا أهلية أو مواجهة بين معارضة ونظام بقدر ما هي مُحارَبة للإرهاب، وتحت يافطته تتقاسم الدول النفوذَ وتتنازع على المصالح.
أعتقد حتى فترة قريبة جدًّا كان الخيار الأول لتركيا هو حل موضوع عفرين، لكن واضح أن المتغيرات وتحديدًا الموقف الروسي، وهو فاعل في هذا الإطار وهو محدد بالنسبة لتركيا قد يغير من ذلك، وتركيا بطبيعة الحال لا تتحرك في فراغ وتتلمس المواقف الدولية وخاصة واشنطن وموسكو، لكن الاتفاق الأخير حول إدلب ربما غيَّر الأولوية، فقد تستفيد أنقرة من الاتفاق مع روسيا وإيران في فرض نفوذ مُعيَّن وحضور في إدلب، من جهة يُجنِّبها مُواجَهة عسكرية كبيرة تحت عنوان محاربة تنظيم القاعدة، ويُجنِّب السكان فيها مَقْتَلة كبيرة، كما يُجنِّب تركيا موجة لجوء، كما يُجنِّبها أيضًا ويُجنِّب المعارضة سيطرة النظام السوري أو القوات الكردية على هذه المنطقة.
وأيضًا السيطرة على الجهة الشمالية من محافظة إدلب تساعد تركيا على مُحاصَرة عفرين وتُضيِّق الخناق على حزب الاتحاد الديمقراطي، بِغضّ النظر عن أنها ستكتفي بالمُحاصَرة أو التخلص من سيطرته تمامًا على المنطقة فهذا سيتضح لاحقًا، لكن أعتقد حاليًّا أن تركيا مهتمة بحل موضوع إدلب بالتوازي مع مشكلة استفتاء كردستان التي تستنفد التركيز والجهد التركي.
– أين وصلت العلاقة التركية – الروسية
الحاج: أستطيع أن أُوجِز التالي: تركيا منذ فترة طويلة مع المتغيرات والتطوُّرات السريعة وحالة السيولة الشديدة في المنطقة، الحقيقة أنها غير قادرة على نَسْج تحالُفات استراتيجية طويلة المدى وعميقة وراسخة، بل هذا ينطبق على كل الأطراف تقريبًا، بسبب التحوُّلات في المنطقة.
نعم هناك تقارُب روسي – تركي ليس له علاقة فقط بالأزمة السورية، بل له علاقة بوجهة نظر أنقرة بسياستها الخارجية وأزمتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي أي حلفائها التقليديين الغربيين، حيث يوجد لدى تركيا منذ 2013 نزوع نحو الشرق لمحاولة كسب المرونة والتوازن في سياستها الخارجية، ورأينا كيف حاولت في صفقة السلاح مع الصين أولًا، ثم وقّعت صفقة “إس 400” مع روسيا، وسابقًا قدَّمَت طلبًا لدخول منظمة شنغهاي الأمنية التي تتزعَّمها الصين وروسيا، يُضاف كل ذلك إلى شعورها بضرورة التواصل والتنسيق مع موسكو بما يتعلق بسوريا حفاظًا على مصالحها، فضلًا عن العلاقات الاقتصادية المهمة، ونتحدث هنا عن الغاز الطبيعي ومشاريع الطاقة كمحطة “أقويول” ومشروع السيل التركي، وزيارة بوتين اليوم الخميس لتركيا ستكون مهمة في هذا السياق.
– هل تسعى تركيا لعلاقات استراتيجية مع طهران؟
الحاج: التحالف مع طهران مُعقَّد أكثر من موسكو، فيه بعض الإشكالات، فيوجد في السياق الإقليمي حالة تنافُس شديدة جدًّا بين أنقرة وطهران، ولا نقول حالة عداء، لكن المتغيرات الأخيرة في سوريا من جهة وفي العراق من جهة أخرى قرَّبت الطرفين أكثر من قبل، فلو عُدْنا إلى 2015 كان هناك تصريحات تركية تتحدث عن سياسات مذهبية وعِرْقية فارسية لإيران للسيطرة على المنطقة، وتهديدات من رئيس الأركان الإيراني لتركيا بأن يحول سوريا إلى مقبرة لها.
أول التطورات التي أدَّت إلى انخفاض المُواجَهة غير المباشرة بين تركيا وإيران تمثَّلت في انخفاض المُواجَهة العسكرية المُباشِرة بين المعارضة والنظام السوري.
استفتاء إقليم كردستان العراق قرَّب بين الطرفين كثيرًا، ولا ننسى أن الأزمة الخليجية ساعدت على ذلك وأدت إلى نوع من الانزياحات والاصطفافات في المنطقة، بالتالي نحن نتحدث عن مسار تقارُب وتنسيق ولا نتحدث عن تعاوُن وثيق جيد، فضلًا عن أن يكون تحالُفًا استراتيجيًّا بين الطرفين، وقد تحدث تغيُّرات لاحقًا.
بطبيعة الحال فإن المسار والتطوُّرات في سوريا والعراق، والتطبيع المُفترَض لبعض الدول العربية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي قد يكون مُؤثِّرًا جدًّا في تقريب الطرفين أكثر فأكثر، ونحن الآن نرى أنهما مستعدان لتعميق هذا التعاون، لكن أرضيته ليست جاهزة حتى الآن ليتحول إلى تحالُف استراتيجي.
– تأثير استفتاء إقليم شمال العراق على تركيا والمنطقة
الحاج: الأمر بِرُمَّته يعتمد على المسار الذي سيَخْتَطُّه البرزاني، ليس على مستوى الخطاب فهو يتحدث عن الحوار ورسم الحدود، لكن الكل يعرف أنه أجرى الاستفتاء حتى يكون ورقة في يده للضغط على بغداد، ليكسب أولًا المناطق المُتنازَع عليها مثل كركوك وغيرها التي لا ينص الدستور العراقي على تبعيتها للإقليم، وعلى المدى البعيد يستثمره في الانفصال، وهو تحدث قبل أيام في الإعلام أنه يريد علاقات جوار طيبة مع بغداد، ويجب أن يتحدثا كجارين، بالتالي هو مسار الاستقلال، لكن الضغط الإيراني والتركي والحكومة المركزية العراقية كل ذلك أدى – نوعًا ما – لأن يتحدث البرزاني عن حوار، لكن يبقى الأساس هو الفعل، هل سيستثمر نتائج الاستفتاء للضغط على بغداد لتحسين شروط الإقليم والحصول على الحقوق السياسية والاقتصادية، أم أنه سيأخذ نتائج الاستفتاء ويذهب إلى تدويل القضية ويحاول الحصول على دعم دولي أو إعلان الاستقلال من طرف واحد.
البرزاني مهتمّ حاليًّا بأن يعطي انطباعًا أنه ذاهب للمسار الأول، وهناك احتمالات ضئيلة لتطوُّرات كبيرة جدًّا، لأننا سنجد إجراءات اقتصادية ودبلوماسية بالمقام الأول من قِبل تركيا وإيران والعراق، بمعنى إغلاق الحدود وتسليم المعابر للحكومة المركزية العراقية، ومحاولة الضغط على المطارات، كما فعل الكثير من الدول بإيقاف رحلاتها إلى السليمانية وأربيل ودهوك بطلب من بغداد، لكن لن يكون هناك مُواجَهة عسكرية بالمعنى الكبير، على الرغم من أن تركيا وإيران والعراق يعطون هذه الصورة من خلال إجراء مُناوَرات.
لكن ذهاب البرزاني إلى الاحتمال الآخر المُتمثِّل بتدويل القضية أو إعلان الاستقلال من طرف واحد سيفتح الباب على مُواجَهة عسكرية، سواء في كركوك المنطقة المُتنازَع عليها كون فيها عرب وتركمان، أو بين الحشد الشعبي والبشمركا، أو في المناطق والمعابر الحدودية في حال رفضت أربيل تسليمها إلى بغداد وحصلت اشتباكات، وهذا الأمر سيُفعِّل الخيارَ العسكري إلى حد كبير، وقد تتطور فعلًا إلى نزاع، بالتالي المسارات المستقبلية مفتوحة على كل الخيارات ومن الصعب الجزم بأي سيناريو سيتحقق، وهذا كله مرتبط بالخط الذي سَيَخْتَطُّه البرزاني بالإضافة للمواقف الإقليمية والدولية، وهنا ينبغي الإشارة أن الموقف الأمريكي ليس واضحًا على الرغم من موافقة أمريكا المبدئية على الاستفتاء إلا أنها تحفَّظَت على التوقيت لكنْ هناك شيء من تحت الطاولة، بالإضافة إلى الكيان الإسرائيلي الذي دعم هذا الاستفتاء، وأنا أعتقد أن البرزاني كان يعتمد على عدم مُمانَعة أمريكا له، وهذا يفسر العناد الكبير منه لبغداد وطهران وأنقرة، بالتالي الموقف الدولي مُحدَّد مهم في مسار الأزمة وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر على الإقليم.
ينبغي التنبُّه إلى أن العنوان الذي يُرفع هنا هو حرية الشعب الكردي وحقه في الدولة، والمنظومة التاريخية للأكراد التي تطالب بحقهم في تقرير المصير وهذا لا يختلف عليه اثنان منصفان، لكن هل هذا سيؤدي إلى استقرار وتنمية في المنطقة أم سيؤدي إلى نزاعات على أسس عِرْقية في العراق والمنطقة، ماعدا الصراعات على أُسُس مذهبية وأيديولوجية في سوريا، فالإصرار على هذا المسار خطير وينذر بصراعات قد تبدأ ولا تنتهي في المنطقة، لكن هذه المرة على أُسُس عِرقية، وهي من النزاعات الصِّفْرِيّة التي لا ينتصر فيها طرف على آخر، وبعد سنوات طويلة من الدمار والخسارة للأطراف يصلون إلى هذه النتيجة، بالتالي نرجو فعلًا أن لا تحدث تطوُّرات من هذا النوع، وأن يتحلى الجميع وتحديدًا البرزاني بالحكمة ونزع فتيل الأزمة منذ بدايتها.