حماس ودحلان وغزة: موازنات واجبة

 

حماس ودحلان وغزة: موازنات واجبة

 

 

المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

لم تكن زيارة وفد حركة حماس مؤخراً إلى القاهرة أولى زياراتها، لكنها كانت أطولها وأكثرها إثارة للجدل، بسبب ما رشح بخصوص لقاء مفترض بين رئيس الوفد وقائد الحركة الجديد في غزة يحيى السنوار وبين القيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان، و”تفاهم” قيل أن الطرفين أبرماه لتخفيف الأزمة الإنسانية في قطاع غزة في مقابل دور سياسي لدحلان وتياره، الذي يسمي نفسه “التيار الإصلاحي” في فتح، في إدارة القطاع.

نتحدث هنا عن لقاء وتفاهم مفترضين لأن حركة حماس التي تدير القطاع بدت متكتمة كثيراً ومتحدثة باقتضاب شديد عن الزيارة وما دار فيها أو عن مخرجاتها، بينما بدا دحلان معنياً بتسريب الكثير حولها خصوصاً موضوع اللقاء، وهو ما لم تؤكده حماس أو تنفه، بما يوحي بأن اللقاء قد يكون أجري فعلاً لكنها غير حريصة على الإعلان عنه وعن مخرجاته الآن.

وهو تحفظ غير مفهوم الحقيقة، إذ لا فارق كبيراً بين الاجتماع بقيادي من تيار دحلان أو بدحلان نفسه إن كان لجهة الدلالات السياسية أو لجهة المخرجات المنتظرة، ويبدو أن الأمر متعلق بحسابات داخلية للحركة من حيث كيفية تسويق الأمر للقاعدة والأنصار أو آلية اتخاذ القرار فيها، باعتبار أن الرجل هو أعدى أعدائها ومن قاد ضدها حرب استئصال أوصلت الأمور إلى ما تم تسميته لاحقاً وحتى الآن “الانقسام” الفلسطيني، فضلاً عن خلفيته الأمنية وعلاقاتها العربية والإقليمية المعادية للمقاومة الفلسطينية مشروعاً ونهجاً.

لا يختلف اثنان أن هذه المبادرة التي قدمها المصريون تحاول استغلال ظروف حماس وغزة القاهرة، لجهة استحكام الحصار وسوء الأحوال المعيشية في القطاع بدرجة غير مسبوقة، فضلاً طبعاً عن المتغيرات الإقليمية والدولية وفي مقدمتها وضعها على قوائم الإرهاب على لسان ترامب بحضور قيادات العالم الإسلامي ومشروع التطبيع العربي – الصهيوني السائر قدماً بخطى حثيثة لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وفي ظل تعنت غير مسبوق وغير مفهوم من سلطة رام الله بقيادة عباس.

كما أن توقيت المبادرة كان مُختاراً بعناية على ما يبدو مع بدايات أزمة قطع العلاقات الخليجية (وبعض الدول الهامشية الأخرى) مع قطر، بحيث تبدو الحركة وكأنها “تتعامل” مع الوضع الجديد وهو معنى مقصود منه تشويهها والإضرار بعلاقاتها مع الدوحة، وبحيث يُضغط عليها أيضاً من خلال هذا الوضع المستجد الذي يحاصر أحد أهم أصدقائها وحاضنة قيادتها السياسية حتى قبل أسابيع.

تدرك حماس بطبيعة الحال كل ما قيل آنفاً وليس غائبة عما يمثله دحلان من مشروع عربي – إقليمي (بل وصهيوني) في مواجهتها هي تحديداً، لكنه سُلــِّم مفاتيح أبواب غزة لتصبح المعادلة واضحة: دور سياسي لدحلان مقابل التخفيف عن القطاع، وهو ما يعني أن حماس مضطرة لأن تقدِمَ على أمر كان من المحرمات أو غيرَ متوقع على الأقل قبل الآن فتخصم من رصيدها في سبيل إنعاش القطاع إنسانياً واقتصادياً ووأد فكرة تجييش الناس ضدها.

بهذا المعنى، تسير حماس على خيط رفيع جداً جداً فوق وادٍ سحيق، وبالتالي يجب على ما يصدر عنها من خطاب وقرارت وسياسات أن يراعي تشابك الأمور وتعقدها وتداخلها. ورغم أننا نتحدث ونكتب بتحفظ شديد باعتبار أن ما سرب حتى الآن ما زال غيرَ مؤكد بشكل نهائي ورسمي، إلا أن صمت حماس يشير إلى صحة جزء غير بسيط منه على الأقل، وعلى ذلك نبني تحليلنا.

هنا، مطلوب من حماس، كحركة مقاومة وكإدارة للقطاع، أن توازن إزاء هذا المشروع المقدم لها بين عدة أمور، أهمها:

الأول، بين الاستراتيجي والتكتيكي أو بين الأصل والفرع، بحيث لا يأتي أي حل يخفف عن غزة على حساب القضية الفلسطينية برمتها. وأقصد هنا فكرة فتح معبر رفح بشكل دائم وإغلاق المعابر مع فلسطين المحتلة، بما يصب في اتجاه إخلاء مسؤولية الاحتلال وربط غزة بمصر والفصل التام بين الضفة والقطاع ويخدم في نهاية المطاف سيناريوهات تصفية القضية والمشاريع البديلة.

الثاني، بين المؤقت والدائم. ذلك أن ما يريده دحلان ليس التخفيف عن غزة بطبيعة الحال وإلا لفعل ذلك بلا مقابل سياسي، وبالتالي ما إن يحصل على ما يريده ويثبت وضعه في القطاع وفي المشهد السياسي الفلسطيني عموماً (أي تخطيه نقطة اللاعودة) لن يطول الوقت قبل أن يتراجع عن مجمل الاتفاق، ولعل حماس تدرك أكثر من غيرها إلى أي مدى يمكنها أن تثق بوساطة مصر السيسي وضماناتها.

الثالث، بين عباس ودحلان. ذلك أن أهم ما قد يدفع حماس لقبول ما عرض عليها هو تعنت عباس وإجراءاته التعسفية والعقابية ضدها وضد القطاع، لكن عليها ألا تغفل أمراً في منتهى الأهمية وهو أن عباس اليوم ضعيف وهرم وبلا ظهير تقريباً وفي آخر أيامه السياسية، بينما دحلان ما زال شاباً وطموحاً وقوياً ولديه شبكة علاقات ودعم عربية – إقليمية، وبالتالي فلا مقارنة بين ما يشكله دحلان من خطر على غزة وحماس والمقاومة والقضية الفلسطينية برمتها وما يشكله عباس اليوم.

الرابع، بين السياسي والاجتماعي. أو بين المصالحة المجتمعية والشعبية والتعامل مع النتائج الشعبية والمجتمعية للانقسام وعودة من غادر القطاع خلال فترة الحسم، وبين إعطاء دور سياسي كبير لمحمد دحلان كما ورد في التسريبات. ذلك أن جل ما يحتاجه الرجل هو موطئ قدم في غزة ليبني نفسه من جديد في مواجهة غزة والضفة وحماس وعباس معاً، وهي مكاسب وخطوات لن يستطيع أحد مواجهتها أو منعها بعد أن يحصل هو على ما يريد، وهي ما أسميتها بـ”نقطة اللاعودة”.

الخامس، بين الاضطرار والاختيار. سيقدم دحلان – في حال مر المشروع – ما سيقدمه للقطاع وأهله لمصالحه الشخصية والسياسية والحزبية وليس من باب الواجب الوطني أو الإنساني، وبالتالي فالعملية مجرد ابتزاز سياسي لحماس باستغلال معاناة الناس، وهو ما يخرجه من إطار “القائد الوطني” أو صفة “المنقذ” و”المخلص” للقطاع، وبالتالي ينبغي على الجميع ضبط الخطاب والمصطلحات بميزان دقيق لدى التعامل معه والحديث عنه.

السادس، بين المرونة والتسرع. لا شك أن على حماس (وغيرها) التفاعل مع المتغيرات بمرونة تجنبها أكبر قدر ممكن من الضرر، لكن على ألا يكون ذلك تسرعاً واختلالاً بالتوازن بسبب اتخاذ القرارت تحت سيف الضغوط والوقت والمتغيرات. من الجيد ألا تنحاز الحركة بشكل سافِر في الأزمات والمحاور العربية والإقليمية، لكن ليس من الجيد أن تظهر وكأنها “باعت” أصدقائها في محنتهم وسارعت للبحث عن طوق النجاة لنفسها. ففي نهاية المطاق لن تكون مصر ولا الإمارات ولا غيرها أصدقاء لحماس يوماً ما، وعليها ألا تزهد في العدد القليل جداً من أصدقائها الحاليين برغم دنو سقف دعمهم المعروف، فضلاً عن أن التسرع سيغري تلك الأطراف بزيادة الضغط عليها وليس العكس.

ثمة أمران مهمان أود التأكيد عليهما قبل الختام.

الأول أن مشروع دحلان في فلسطين والمنطقة أوضح من أن يخفى على أحد، وسيبدأ في تطبيقه عملياً ما إن يثبت أقدامه كما سبق تفصيله وسيكون من الصعب جداً وقفه أو فرملته، ويجب على حماس ألا تتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية والتاريخية والوطنية بأن تكون هي من فتحت له الباب ومهدت له الطريق لذلك، سيما في وجود مظنة المصلحة.

والثاني، أن لا منطقية محمود عباس في الإصرار على سد الباب بوجه غزة وحماس هي أهم ما يدفع الأخيرة نحو التفكير جدياً بما عرض عليها. وأظن أن نفس الأطراف التي تقدم “الجزرة” على يد دحلان هي نفسها من ترفع “العصا” بيد عباس، وإن لم يدرك عباس نفسه ذلك، وبالتالي يكون التضييق من جهات والتيسير من جهة واحدة أمراً مقصوداً لذاته ليرسم درباً وحيداً أمام حماس لتسير عليه، وهو معنى ينبغي أن يزيد من حذرها وريبتها وتريثها وتدابيرها.

حسناً، فهل المطلوب من حماس أن تنتظر خنق غزة وقتلها بالموت البطيء؟ بالتأكيد لا، ولن تعدم حماس خيارات أخرى وإن كانت أيضاً صعبة ولها محاذيرها ومخاطرها، وتبقى هي الخيارات الحقيقية رغم عدم ارتفاع نسبة نجاحها وحاجتها لمزيد وقت وجهد.

على حماس التريث والانتظار والاستمرار في الصمود، لكن الصمود الإيجابي وليس السلبي، بمعنى العمل على تعزيز صمود الشعب في غزة وتخفيف معاناته قدر الإمكان، فتصور حياة رغيدة وهانئة تحت الاحتلال وفي ظل المعطيات الإقليمية سيعد ضرباً من الخيال. وعندما أقول الصمود الإيجابي فأنا أعني رؤية وتصوراً وخطة متكاملة على مستويات الخطاب والممارسة والقرارات التنظيمية والإدارية.

وعلى حماس أن تعمل بصدق وجدية على تشكيل جبهة وطنية في مواجهة عباس من جهة ومشاريع تصفية القضية التي تطل برأسها من جهة أخرى، تضم كل الفصائل والتيارات والشخصيات الوطنية والإسلامية والمستقلة الممكنة، وتشكيل لجنة وطنية لإدارة شؤون القطاع. ولست أتجاهل مدى صعوبة هذا الأمر وحسابات بعض الفصائل والأطراف والحاجة لضامن أو داعم لمشروع كهذا، لكنه يبقى خياراً ممكناً وضرورياً والأهم أنه أكثر ضماناً وأقل مخاطر من السيناريوهات الأخرى.

وعلى حماس، أخيراً، أن تعيد توصيف نفسها ودورها مرة أخرى والعودة ما أمكن إلى دور حركة المقاومة والتحرير والبعد ما أمكن عن دور السلطة أو الإدارة. لقد احتاجت الحركة لذلك في السابق لحماية نفسها ودورها وسلاحها، لكنها الآن شبَّت عن الطوق وقوي عودها وأصبحت متطلبات السلطة عبئاً عليها ومكبلة لها وليس العكس، فإذا ما كان هناك إمكانية للتخفف قدر الإمكان من استحقاقات السلطة ومتطلباتها، سيساهم ذلك في تحرير يدها المقاومة من جهة وتخفيف الضغوط ولو نسبياً عن القطاع.

أدرك طبعاً أن المشاركة في القرار السياسي أحد أدوات المقاومة ودورها المكمّل ومن دونها تضعف يدها، لكنني أتحدث عن الصفة والدور الرئيس وطريقة التفكير والتخطيط، وإلا فلا غنى عن مشاركة جميع الأطراف – سيما حماس والجهاد – في القرار السياسي الذي يمس جوهر القضية الفلسطينية وهو ما يصب في سياق ضرورة إنهاء تفرد عباس/فتح/السلطة في القرار كما سبق ذكره.

في الخلاصة، إن ما قدم لحماس ليس مبادرة منبتة عن المتغيرات في المنطقة والعالم وبالتالي على حماس أن تتاعمل معه برؤية استراتيجية لا تكتيكية، ووفق نظرة متكاملة طويلة النفس، ومن باب الاضطرار لا الاختيار، ومن المعروف أن الضرورات  – التي تبيح المحظورات –  تقدر بقدرها ولا تتحول مهما حصل وكان إلى سياق طبيعي.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

عن وهم "التحالف" التركي - السعودي

المقالة التالية

الأزمة الخليجية وسيناريوهات المستقبل

المنشورات ذات الصلة