حماس والنظام السوري: نقاش في الدين والاخلاق والسياسة
الجزيرة نت
كما كان متوقعاً، فقد أحدث البيان الذي أصدرته حركة حماس مؤخراً بخصوص قرارها باستعادة العلاقات مع النظام السوري جدلاً واسعاً وردود أفعال حادة، لا سيما من دوائر تعد مقربة أو قريبة منها وتحسن الظن بها وتدعمها، مثل بعض الحركات الإسلامية والهيئات العلمائية وأصحاب الرأي الداعمين عادة للمقاومة.
وقد تركز معظم النقد الموجه لقرار الحركة على البعدين الديني والأخلاقي، إضافة لبعض النقاش السياسي الذي بقي هامشياً إلى حد كبير. وبعيداً عن اتخذ موقف مع أو ضد القرار، يسعى هذا المقال لنقاش مدى وجاهة تحليل القرار المذكور من هذه الزاويا والاستخلاصات التي يمكن الوصول لها.
النقاش الديني
صدرت بخصوص البيان فتاوى من عدة علماء ودعاة اتجهت لـ”تحريم” تأسيس علاقة مع النظام السوري بالنظر لما ارتكبه بحق شعبه، بل إن أحد العلماء الكبار قال ما معناه إنه “لا يختلف اثنان” على أن عودة العلاقات مع نظام الأسد حرام. كما أن الكثير من النقد الموجه لحماس من شخصيات دعوية دار حول فكرة أنها “حركة إسلامية” الدينُ جزء رئيس من محددات عملها ومواقفها، وبالتالي فإنها بإعادة العلاقة مع النظام تناقض هذه المرجعية الدينية.
إن العمل السياسي في عمومه لا يخضع ولا ينبغي أن يخضع لمنطق الحلال والحرام، فمما استقر في وعي الحركات الإسلامية وممارساتها أن العمل السياسي وتحديداً العلاقات السياسية يقعان تحت عنوان “المصالح المرسلة” أو”السياسة الشرعية”، وهي مجالات لا تخضع لمؤسسة الفتوى ومنطق الإجازة والمنع وإنما لتقدير “الإمام” وفق المصطلحات التراثية.
لا ينفي ذلك الحاجة أحياناً، وبشكل استثنائي، لرأي شرعي أو فتوى في بعض المستجدات الشائكة أو التي يصعب قياسها على أمر معروف سابقاً، كما حصل مثلاً لدى لجوء المقاومة الفلسطينية للعمليات الاستشهادية، حيث ذكرت أدبياتها حصولها على فتاوى من علماء معتبرين.
هذا من حيث المبدأ. وفي التفاصيل أن الكثير من الفتاوى التي قالت بالحرمة لم تذكر مناط التحريم وسببه، وبعضها ممن ذكر لم يكن له موقف مشابه من علاقات حماس – وغيرها – مع أنظمة وأطراف أخرى تنطبق عليها الكثير من الأوصاف التي تستخدم بحق النظام السوري. وليس خافياً أن غياب المعيارية ثغرة كبيرة في منظومة الفتوى.
لا يعني ما سبق أن الدين ينبغي أن يكون محيّداً تماماً عن العمل السياسي وأنه لا ضوابط دينية لفصائل المقاومة والحركات الإسلامية في علاقاتها. لكن الأمر أقرب لمنظومة أو شبكة من القواعد والقيم العامة التي ينبغي مراعاتها، وتبتعد عن منطق فتاوي التحليل والتحريم، لا سيما في ظل غياب أي مؤسسة دينية مجمع عليها لتكون مرجعية الفتاوى.
النقاش الأخلاقي
أكثر ما ووجهت به حركة حماس بعد قرارها الشهير هو النقاش الأخلاقي، الذي اشترك به معظم – إن لم يكن كل – من انتقدوها من مختلف التوجهات والخلفيات والمنطلقات من نشطاء وإعلاميين وحتى بعض المحسوبين على حماس نفسها.
قال هؤلاء إن حماس بإعادة العلاقة مع نظام الأسد تناقض نفسها وتاريخها وهويتها كحركة تحرر وطني، والبعض اتهمها بأنها باعت الدم السوري أو لم تأبه له، ورأى بعضهم أنها بذلك تحسن صورة النظام وبالتالي تدعمه في مواجهة شعبه.
ولعل السبب الرئيس خلف هذه المحاججة هو الخلط بل والمساواة بين نسج علاقة مع طرف ما والتطابق معه في الموقف، وهو خطأ منهجي كبير. ومرة أخرى، ثمة “استثناء” للنظام السوري في هذا الإطار، إذ لم تُواجه حماس أو غيرها بمثل هذا الادعاء بين يدي علاقاتها مع أطراف أخرى، ومثال النظام المصري الذي أعادت الزخم لعلاقاتها معه بعد الانقلاب مثال واضح على ذلك.
إن اتهام حماس بعدم الاكتراث بالدم السوري في إطار عودة العلاقات مع النظام ينبغي أن يصطحب معه اتهامات بعدم الاكتراث بالدم الفلسطيني بل و”الحمساوي”، ذلك أن عدداً كبيراً من الفلسطينيين عموماً والحركة الفلسطينية خصوصاً من ضمن ضحايا النظام بين شهيد ومعتقل ومفقود.
وبنفس المنطق، ماذا يمكن أن يقال عن العلاقات التي تنسجها حماس مع أنظمة تعاديها نظرياً وعملياً؟ وهل إعادتها للعلاقات مع إيران سابقاً شملت تبني سياساتها الخارجية لا سيما في سوريا؟ بل هل ردة الفعل الكبيرة على حماس بعد إصدار البيان توحي بأن علاقاتها مع النظام يمكن أن تحسن صورته لدى الشرائح والأطراف المعنية، بل هل النظام بعد كل ما حصل حريص على “صورته” أمامها؟
النقاش السياسي
كان البعد السياسي هو الأقل حضوراً في نقد قرار حماس وبيانها رغم أنه الَأولى بذلك. ولعل أهم ما قيل في هذا الصدد نفي وجود مصالح حقيقية وجوهرية للحركة مع النظام السوري، وهي محاججة منطقية وذات وجاهة بالتأكيد بالنظر لوضع الأخير سياسياً وميدانياً وحجم التدخلات الخارجية في سوريا ومدى التغيرات الجذرية فيها خلال العقد الماضي.
لكن ينبغي أن يُستحضر معها كذلك أن الحركة لم يصدر عنها ما يشير إلى مبالغتها بحجم المصالح المتوقعة من عودة العلاقات مع دمشق، أقله في المرحلة الأولى ووفق الأوضاع الحالية، إضافة إلى أن بعض المصالح قد لا تكون واضحة ومعلنة للمتابع من بعيد، فضلاً عن أن دفع بعض الأضرار المحتملة يمكن عدُّه ضمن المصالح المنتظرة وأقصد هنا إشارات حماس لحجم المتغيرات في المنطقة والعالم وخصوصاً ما يتعلق بالتحالفات والمحاور الإقليمية.
وقد قيل ضمن النقاش السياسي إن النظام السوري أحوج للعلاقات مع حماس منها للعلاقات معه، وهو أمر غير دقيق بالنظر لواقع الطرفين وأولويات كل منهما. وخلطت بعض النقاشات بين ما يفترض أنه ثبات على الموقف وما يمكن أن يكون جموداً مضراً، وبين مساحات المرونة المطلوبة ومسارات الميكافيلية المرفوضة، وكل ذلك نقاش سياسي ممكن بل ومفيد.
لكن كان من اللافت أن الكثيرين أظهروا الشماتة بحماس حين سربت بعض وسائل الإعلام اشتراط النظام تقديمها اعتذاراً واضحاً وعلنياً عن موقفها السابق من الثورة السورية (ومنه). كان من الواضح أنها لم تقدم الاعتذار ولم تعلن عن تغيير موقفها، ما يعني أنها لا تذهب لعلاقة تبعية ورضوخ ولا تتبنى موقف النظام ولا تسعى للتدخل في الشؤون السورية الداخلية، وهو أمر أساسي ومحوري في منطلقات نقد قرارها الأخير.
وأخيراً، كان ثمة تركيز على نقد ما عدُّه البعض “استثنائية” القضية الفلسطينية بالنسبة لحماس ومصطلح “مركزية القضية الفلسطينية” المستخدم في المنطقة منذ عقود. ولعله قد سبق أنْ كتَبَ محسوبون على الحركة أنها لا تفاضل بين القضايا والأزمات وإنما تحاول الإيفاء بمسؤولياتها تجاه “الثغر” الذي تقف عليه ولا يمكن أن يقوم به غيرها من خارج فلسطين، وأن “المركزية” لا تعني الحصرية ولا الأفضلية.
في الختام، لا شك أن ردة الفعل السلبية تجاه قرار حركة حماس إعادة العلاقات مع النظام السوري كانت متوقعة وجزء لا بأس به منها له وجاهة، بالنظر لخصوصية الوضع السوري وسخونة الحدث وفداحة الخسائر، ولا سيما أن جزءاً لا بأس به من النقد صدر عن محبين ومناصرين وداعمين لها فضلاً عن متضررين من النظام وضحايا له.
ولكن ذلك لا يعني استسهال تجاوز حدود النقد والنصح والعتب نحو مساحات التشويه والتخوين والاستعداء. ذلك أننا نتحدث عن قرار سياسي يخضع لتقدير الموقف السياسي الذي قد يخطئ وقد يصيب، وقد يتضح ذلك قريباً أو تثبته التطورات لاحقاً. لا يعني ذلك إنكار وجود بُعْدٍ أخلاقي لا يمكن لفصيل مقاوم وحركة إسلامية مثل حماس تجاهله، لكن على أن يُقارب هذا البعد الأخلاقي ضمن حدوده ومجاله وبأسلوب لا يخرج عن الإطار الأخلاقي كذلك. خصوصاً وانه لا مصلحة لأحد في تشويش وتخوين حركة مثل حماس ما زالت في طليعة مقاومة الاحتلال ولم يصدر عنها ما يشير إلى أنها غيرت أو تغيرت، وهو نهج – التخوين – كان من ضمن أسباب الخسارة والتراجع في عدد من القضايا.
كما أن كل ما سبق لا يعني أن قرار حماس منزه عن النقاش فضلاً عن النقد والرفض، بل قلنا إن بعض ما وجّه لها له وجاهة وأحقية، لا سيما ما يتعلق بالأسلوب والخطاب والصياغات والانطباعات التي تتركها لدى المتلقي والمتابع، وهي أمور ينبغي على حماس أن توليها عناية خاصة في هذا المسار الحساس والشائك، فضلاً عن أن احتمالية تحول علاقات حماس العربية والإقليمية بشكل تدريجي نحو حصرية – وليس فقط أولوية – “محور المقاومة” لها مخاطر محتملة كما لها فوائد متوخاة.