حماس والمصالحة .. التكتيك والاستيراتيجيا

بعد ثمانية أعوام من الانتخابات التشريعية، وسبعة من حكم حركة حماس لغزة منفردة، وإثر جولات عديدة من محاولات لم الشمل الفلسطيني وإنهاء ملف انقسامه السياسي، تم توقيع اتفاق المصالحة أخيراً، ثم ما لبثت الحكومة أن تشكلت وأعلن عنها.

لكن ظروف الاتفاق وبنوده الموقعة، إضافة لتصريحات رئيس السلطة وبعض ملفات الخلاف (وزارة الأسرى مثالاً) صدّرت شعوراً بأن حماس قدمت تنازلات كبيرة في سبيل هذه المصالحة، وأنها وردتها من باب الضعف والاضطرار، الأمر الذي أعلى من الأصوات المتحفظة على ما حصل حتى من داخل صفوفها.

والحقيقة أننا قبل التعجل في إصدار الأحكام، ينبغي علينا أن نفرق هنا بين رؤية حماس للمصالحة من ناحية مبدئية (استيراتيجية) وما سرّع العملية وأخرجها للعلن مؤخراً من ظروف (التكتيك)، ولنا في هذا الصدد ثلاث ملحوظات:

الأولى، أن لدى الحركة رؤية استيراتيجية ترى من الصعوبة بمكان على مشروع المقاومة النجاح واجتراح الإنجاز في ظل انكفاء فصيل قوي ورئيس كحركة فتح عنه، فضلاً عن معاداته في ظل التنسيق الأمني الحاصل في الضفة الغربية المحتلة. وبناء على هذه الرؤية، ترى حماس في عملية المصالحة مصلحة مبدئية لمشروع المقاومة، بناء على تحييد إحدى العقبات الرئيسة له، وكسب ما يمكن كسبه من تخفيف اليد الأمنية الثقيلة في الضفة أو ربما محاولة جر فتح/السلطة لمربع الاصطفاف مع الخط المقاوم ولو تدريجياً.

الثانية، أن الوضع العربي والإقليمي تغير 180 درجة عن بدايات الربيع العربي وموجته الثورية الأولى التي أتت بالإسلاميين (حلفاء الحركة) للسلطة وما نتج عن ذلك من دفعة معنوية ربما أثرت في حينها على “شروط” المصالحة من باب تقييم موازين القوى. اليوم، تتضح أكثر من أي وقت مضى الأزمة السياسية التي تعانيها الحكومة في غزة إثر الانقلاب في مصر، مع ما تبعه من شيطنة حماس وتجريمها، وإطباق الحصار عليها، وإغلاق المعبر وقصف الأنفاق، الأمر الذي تركها شبه وحيدة في الساحة السياسية بعدما فقدت/تركت حلفها السابق المتمثل في إيران – سوريا – حزب الله.

الثالثة، أن حماس حصلت منذ فترة – فيما يبدو – على ما كانت تريده من مشروع السلطة وهو تأمين المقاومة وتطويرها، ولا تبدو قلقة في المدى المنظور تحجيم هذا المشروع في قطاع غزة بعد ما عاشه من تنمية وتطوير من ناحية العدد والعدة والتنظيم، خلال السنوات التي عاشها في ظل حكومة حماس الراعية للمقاومة، الأمر الذي يعطي حماس في غزة دوراً شبيهاً بدور حزب الله في لبنان، لناحية القوة العسكرية القادرة على التأثير والعصيّة على التطويع حتى من دون الدخول في الحكومة.

فإذا ما أضفنا لهذه المحددات الرئيسة الثلاث ما تعانيه حماس من أزمة اقتصادية غير مسبوقة أثرت على قدراتها في تسيير شؤون المواطنين في غزة، سنرى أن الحكومة باتت عبئاً تحاول حماس التخلص منه، والتراجع خطوة للوراء في ظل منظومة تسعى لاستهدافها والنيل منها.

من هنا يمكن فهم التنازلات التي قدمتها حماس في سبيل المصالحة، وقبولها بكثير مما قد يصعب عليها تسويقه لدى قاعدتها الجماهيرية من شروط تتعلق بأسماء بعض الوزراء أو الوزارات، إذ الناظم الرئيس لموقف حماس هنا هو الخروج من الحكومة والاكتفاء بدور الحركة المقاوم، القادر على إفشال أي اتفاق تسووي قد يقوض المشروع الوطني برمته.

من ناحية أخرى، فإن تنازل حماس عن الحكومة يعفيها من جزء كبير من المسؤولية القانونية والأخلاقية والواقعية فيما خص الحصار ولقمة عيش المواطن، في حالة نشوب أي حرب قادمة مع الكيان الصهيوني تلوح إشاراتها بين الحين والآخر، وهذا يطلق يد المقاومة أكثر ويعطيها الكثير من المرونة في التعامل مع التهديدات العسكرية والأمنية الصهيونية، في حين كانت مضطرة لتكرار الحساب عشرات المرات قبل الرد على أي هجوم صهيوني حال وجودها في الحكومة.

ولا ينبغي إغفال أهمية الوضع الداخلي للحركة الذي تأثر بتجربتها في الحكم إيجاباً وسلباً، وسلباً اكثر من إيجاباً في مساحات كثيرة، وما تنطوي عليه أهمية الالتفات لترتيب البيت الداخلي الحمساوي، في ظل ما سبق ذكره من ظروف داخلية وخارجية تمثل استحقااقت مهمة وحساسة للحركة في الفترة المقبلة.

أخيراً، لا يجب إهمال بنود الاتفاق الأخرى التي تنص على ترتيب أوضاع منظمة التحرير وانتخبات المجلس الوطني وتفعيل المجلس التشريعي، بما يحد من سلطات عباس/السلطة/فتح في اتجاه قيادة جماعية للشعب الفلسطيني، والتي وإن ماطل بها رئيس السلطة حالياً وحتى وقت معين فربما لن يستطيع التهرب من استحقاقاتها للأبد، وهو ما تعول عليه حماس والقوى الوطنية الأخرى لتصحيح بوصلة المنظمة ومؤسساتها المختلفة.

هكذا، رغم صورة الضعف التي تمثلتها حماس في الاتفاق، بالقبول بشروط السلطة والتراجع عن شروط تهيئة الأجواء في الضفة، وخروج حماس من الحكم، إلا أننا نرى في مقابل هذه الصورة الآنية المتراجعة أهدافاً استيراتيجية واعدة تسعى لها الحركة من خلال هذا التراجع التكتيكي، وفق نظرية “خطوة للوراء، عشر خطوات للأمام”، ويبقى الشيطان – كما دائماً – ماسكاً بتلابيب التفاصيل المتعلقة بالتنفيذ والرقابة والجدول الزمني.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

كلام في المغامرة والتجربة والمدرسة

المقالة التالية

لماذا تأخر ترشح اردوغان للرئاسة؟

المنشورات ذات الصلة