على مر سنينها الطويلة، دفعت القضية الفلسطينية أثماناً كثيرة وانحرفت عن مسارها الصحيح مراراً بسبب قرارات وأفعال ومواقف خاطئة أقدمت عليها منظمة التحرير الفلسطيية خلال فترات وجودها في الأردن ولبنان وتونس، وفي ملفات وقضايا مفصلية هامة مثل حرب الخليج الثانية. هذه الأخطاء الكبيرة – والتي أرجعت القضية الفلسطينية مراحل إلى الوراء – شكلت دروساً مهمة استفادت منها فصائل المقاومة الفلسطينية اللاحقة على المنظمة وحركة فتح، وفي المقدمة منها حرك المقاومة الإسلامية – حماس، التي أعلنت منذ انطلاقتها أنها تسعى لحشد دعم كل الشعوب والدول للقضية الفلسطينية دون التدخل في شؤونها الداخلية.
وعلى مر السنين، التزمت حماس بهذا المبدأ على اختلاف القضايا وكثرتها، وتنوع الدول والنظم الحاكمة بين داعم ومناهض لمنهجها المقاوم، الأمر الذي كان محط تفهم وتقدير من جميع الأطراف، إلى أن جاءت رياح التغيير التي هبت في فصل الربيع العربي.
كانت الثورة المصرية الامتحان البارز الأول للحركة في سلسلة الثورات العربية، حيث كان من المتوقع والمتصوَّر أن تدعم الحركة شعبياً وإعلامياً الثورة المصرية ضد نظام طالما اتهم بالانحياز ل”إسرائيل” والتضييق على المقاومة وحصار قطاع غزة، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. لم تخرج المظاهرات الحاشدة في القطاع الذي تسيطر عليه الحركة، ولم تخرج تصريحات الحركة عن التأكيد على حق الشعوب في الحرية والكرامة دون التدخل في شؤون الدول الداخلية.
غمز الكثيرون من قناة الحركة معتبرين أن موقفها هذا نابع من خوفها من فشل الثورة المصرية وتداعيات ذلك عليها، لكن كلام رئيس مكتبها السياسي السيد خالد مشعل بعد اتفاق المصالحة الفلسطينية في القاهرة (وبعد نجاح الثورة في الإطاحة بمبارك) وضع النقاط على الحروف. قال مشعل ما معناه: “ليس من المروءة أن أنتقد وأهاجم شخصاً أو نظاماً بعد رحيله عن كرسي الحكم، في حين لم أكن أفعل ذلك خلال فترة حكمه”. كان ذلك تعبيراً واضحاً ومبسطاً عن الأخلاقيات والمبادئ التي تلتزم بها الحركة حتى مع خصومها.
غير أن مأزق الحركة الأكبر كان مع الحراك الشعبي في سوريا، فالنظام هناك كان الوحيد الذي فتح أبوابه للحركة حين أغلقت في وجهها كل الأبواب الأخرى بعد إخراج قادتها من الأردن، وقدم لها الدعم السياسي والعسكري والأمني، في ظل وضع إقليمي معقد وظروف عربية غير مؤاتية.
هنا وقعت حماس بين فكي كماشة… بين نظام أراد منها (وما زال) أن تعلن صراحةً تأييدها له وتسليمها بنظرية المؤامرة التي يسوّقها، على اعتبار أنه مستهدف بسبب موقفه الممانع والداعم لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين، وضغط عليها بشتى الوسائل، وبين بعض اطراف المعارضة وفئات الشعب المشاركة في الحراك التي هاجمت الحركة واعتبرتها ساكتة عن الحق ومتخاذلة عن نصرة الشعب السوري، خصوصاً أنها قبل كل شيء حركة تحرر وطني قام من أجل رفع الظلم وتحقيق الحرية والكرامة.
وبعيداً عن هؤلاء وهؤلاء، أرى أن الحركة التزمت (وما زالت وستبقى برأيي ملتزمةً) الصمت لسببين رئيسين:
الأول: موقفها المبدئي القاضي بعدم التدخل في شؤون الدول العربية مهما كانت القضية، والتزامها بآداب وأخلاق الضيافة في البلاد التي تستضيفها، وعدم مناصرتها لأي طرف على آخر بغض النظر عن قناعاتها الذاتية ورؤيتها للأمر
الثاني: قلق مبرر جداً من احتمالية فقد سوريا الحالية بدورها الممانع والداعم للمقاومة، والمناهض للسياسات الصهيونية والأمريكية، والضابط والضامن لكثير من سياسات المنطقة وتوازناتها الإقليمية (بما في ذلك سوريا ولبنان والعراق)، بما يمكن أن يهدد حماس وكل قوى المقاومة في المنطقة ووجود اللاجئين الفلسطينيين في سوريا وحتى لبنان، في حين تتراءى في الأذهان صورة المثال العراقي للاجئين الفلسطينيين.
من هنا اختلف أداء الحركة وأخواتها من الفصائل المقاومة عن أداء بعض “المثقفين” المحسوبين سياسياً، والذين تظاهروا في رام الله مرددين شتائم بحق النظام ورئيسه، في حين لم نرهم يتظاهرون حين دكت غزة بمئات الأطنان من القنابل من قبل العدو الصهيوني في 2008، أو خلال الثورات العربية السابقة على سوريا، وكأن التاريخ بدأ فقط من سوريا، بما يوحي بالحسابات السياسية الضيقة البعيدة عن الاهتمام بالشعب السوري الشقيق، والأبعد يقيناً عن روح المسؤولية والتفكير العميق واستشعار دقة المرحلة على سوريا والقضية الفلسطينية عموماً.
ربما لا يدرك النظام السوري أن حماس لا تستطيع بكل بساطة أن تتنكر لمبادئها وتراثها وثوابتها وجمهورها فقط من أجل رد الجميل له (بما يعني حينها أن قرارها بيده هو لا بيدها هي)، وربما لا يدرك بعض المعارضين الحانقين عليها والفاقدين للرؤية السياسية والاستيراتيجية الواضحة مقدار وحجم الضغط المعنوي والمادي، السياسي والأمني الذي يمارسه النظام عليها في ظل أخبار رشحت عن اعتقالات وتحقيقات وربما تعذيب لبعض أفرادها (وتوقف أو انخفاض الدعم الإيراني المالي)، ما زالت صامدة حتى الآن أمامه. لكن الحركة نفسها تدرك بالتاكيد أنها أمام أزمة كبيرة ومعقدة جداً فُرضت عليها ولا يد لها فيها، دون أفق واضح حتى الآن لكيفية الخروج منها بأقل الخسائر. أزمة كبيرة كشفت – فيما كشفت عنه – أن الحركة ليست في جيب أحد وأن قرارها ليس مملوكاً لمن يدفع أو يدعم أكثر، وأنها ملتزمة وملتصقة بثوابتها ومصالح الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
كل هذا التوصيف ينطبق بشكل أو بآخر وبدرجات متفاوتة على الفصائل الفلسطينية المقاومة المختلفة، لكننا أفردنا حماس بالحديث هنا لكونها العنوان الأبرز بين تلك الفصائل وصاحبة الحضور الأكبر سياسياً وعسكرياً وجماهيرياً، ولأنها (وهذا الأهم ربما) انفردت بمواجهة سهام النقد والتشكيك والتشويه والغمز والهجوم.
هي إذن فاتورة جديدة من الفواتير التي دفعتها وستدفعها الحركة خلال مسيرتها بسبب ثباتها على مواقفها ومبادئها، وربما لن يتسنى لها أن ترضي أياً من طرفي المعادلة السورية حالياً، ولكن حسبها أن ترضي ربها وضميرها وثوابتها وجمهورها والوعي الجمعي لهذه الأمة.