رغم سياستها القاضية بعدم التدخل في شؤون الدول العربية أو الانحياز لتحالفات عربية و/أو إقليمية وتصديق واقعها – في الأعم الأغلب – لهذا الإعلان النظري، ما فتئت حركة المقاومة الإسلامية (الفلسطينية) حماس هدفاً لسهام النقد والعتب من مختلف الأطراف في معادلات المنطقة. وهو أمر وإن دل على محورية دورها والاهتمام بمواقفها، إلا أنه يشير أيضاً إلى أزمتها، أو لنقل أزمة الاستقطاب في المنطقة المنعكسة عليها.
والحقيقة أن الحركة لم تكن يوماً بعيدة عن التأثر بحالة الاستقطاب والمحاور في العالم العربي والمنطقة، فقبل الثورات العربية كان هناك محورا الممانعة والاعتدال كما سميا في حينها، ورغم اعتبارها ضمناً في عداد الأول، إلا أنها لم تتخندق يوماً ضد الآخر، بل كانت تحاول دائماً إطفاء الحرائق وتحسين العلاقات مع الجميع، حتى مع الذين استعدوها دون ذنب منها إلا أنها حركة مقاومة.
بيد أن الثورات وما تبعها من ثورة مضادة قلبت موازين المنطقة وأطاحت بمحاورها وتحالفاتها، كما أن الثورة السورية وما آلت إليه أوضاعها من تغول إيراني واحتلال روسي تسببت بحالة استقطاب غير مسبوقة رفعت من وتيرته “الحرب الباردة” بين إيران والسعودية مؤخراً على هامش الأزمة في اليمن.
ومشكلة حماس في هذا السياق مركبة، إذ عليها مسؤوليات أخلاقية لا يمكنها تخطيها باعتبارها تياراً إسلامياً وحركة تحرر وطني لا يسعها التنكر لمطالب الشعوب بالحرية ومقاومة الظلم، في مقابل احتياجات ضرورية لها لا يمكنها أيضاً الاستغناء عنها باعتبارها حركة مقاومة مسلحة، وبين الأمرين يبدو التوازن في ظل هذه التطورات عزيزاً جداً.
فالدولة الوحيدة التي قدمت – وأبدت استعدادها لتقديم – الدعم الذي تحتاجه حماس كحركة مقاومة، والمقصود هنا هو السلاح والتدريب وما أشبههما، هي إيران، التي تقف اليوم في مواجهة شعوب المنطقة – ولا أقول دولها – في سوريا والعراق واليمن، بينما لا يستطيع – وربما لا يريد – حلفاؤها تقديم أكثر من الدعم السياسي والإعلامي، وأحياناً المالي.
أما المنظومة العربية الآخذة بالتشكل حديثاً مع العهد الجديد في السعودية وامتداداته العربية والإقليمية فلم تقدم الكثير حتى الآن على صعيد إثبات أي تغير في مواقفها من الحركة، اللهم إلا إرجاء “الإسلام السياسي” إلى المرتبة الثانية في قائمة المهددات بعد إيران، كما أشرنا في مقالنا السابق. وعليه، فلم تدعَ الحركة مثلاً إلى السعودية إلا مرة واحدة اعتبرها وزير الخارجية السعودي أداء للعمرة “كأي مسلم” ثم لم تتكرر، بينما لا يُسمع صوت الرياض عالياً في مواجهة الحصار المفروض على القطاع مصرياً، إضافة إلى ما نطالعه في بعض وسائل الإعلام الممولة سعودياً من دعوات لإضافتها إلى قائمة الإرهاب مع حزب الله.!!
هذا الواقع يدفع الحركة فيما يبدو إلى الإبقاء على جسور العلاقة مع طهران بل والعودة عن تصريحات سابقة تحدثت عن قطع إيران لدعمها وضغطها على الحركة لاتخاذ مواقف سياسية معينة من الثورة السورية. ولكن، لا تلوح في الأفق أي إرهاصات لتغير في موقف حماس أو انحيازاتها السياسية والأخلاقية، وبالتالي يمكن تصنيف ذلك على أنه أزمة خطاب لا أزمة موقف.
ولعل أبرز دليل على دنو سقف النظام العربي الرسمي وضيق – إن لم نقل انعدام – الأفق المتاح من قبله للحركة هو اختيار أحمد أبو الغيط أميناً عاماً للجامعة العربية، كاختيار للدول العربية وليس فقط للنظام المصري، وهو وزير خارجية مبارك الشهير بمواقفه المناهضة للقضية الفلسطينية وقواها المقاومة، بدءاً بعلاقاته الحميمة مع الصهاينة، مروراً بإعلان ليفني الحرب على حماس في 2008 من القاهرة بحضوره (ومباركته)، وليس انتهاءً بتهديده الشهير “بتكسير أرجل” الفلسطينيين.
وفي سياق متصل، تحاول الحركة قدر الإمكان تجنب الإجراءات العقابية المصرية بحقها وحق سكان قطاع غزة، بإرسال رسائل إيجابية قدر الإمكان، يكون الرد عليها بتجريمها واعتبارها منظمة إرهابية واتهامها بالوقوف خلف سلسلة من العمليات والهجمات على الأراضي المصرية، مثل اقتحام السجون والخطف والقنص، وأخيراً اغتيال النائب العام السابق، وهو ما يوحي باستمرار الحصار وتعميق القطيعة واستدامة الاستهداف المصري لها وسط صمت – أو رضى – عربي.
من جهة أخرى، ترى حماس فيغطار مسؤوليتها في القضية الفلسطينية ومرجعيتها الإسلامية ورؤيتها الحضارية أن النزاع على أسس طائفية أو مذهبية خطر ينذر بنتائج كارثية على كل المنطقة بلا طائل وبلا مستفيد سوى العدو الصهيوني. ولذلك تتجدد منها كل حين دعوات لنبذ الخطاب الطائفي والممارسات المذهبية وتحكيم العقل والتواصل للتوصل لحلول وسطى، تصون العالم العربي من الحرائق الطائفية وتجنبه التدخلات الخارجية.
بيد أن هذه التصريحات، وإضافة إلى أنها لا تلقى آذاناً مصغية، تقابَل بعتب وغضب شعبيين، باعتبارها موقفاً حيادياً – والبعض يراه انحيازاً لإيران – لا يليق بحركة إسلامية ومقاومة أن تتخذه. فحالة الاستقطاب السياسي والمذهبي في المنطقة لا تترك للعقل أو لدعوات من هذا القبيل مكاناً للإصغاء فضلاً عن التفهم والتقبل.
لا شك أن حماس بمرجعيتها وخبرتها وعلاقاتها تتفهم حجم الغضب ومدى العتب الموجهيْن لها، وتدرك بالتأكيد المظلومية الواقعة على شعوب المنطقة، لكنها لا تريد لعاطفتها وموقفها المبدئي وقناعاتها أن تحرمها من دعم هي في أمس الحاجة إليه لإسناد وتطوير جناحها المسلح وسط توقعات بحرب قادمة – وشيكة كانت أم بعيدة – وفي ظل تخلي الآخرين عنها إن سلمت من استهدافهم، وكأنهم “لا يرحمون ولا يريدون لرحمة الله أن تتنزل” وفق المثل الشعبي الشائع.
بنظرة هادئة، يبدو موقف حماس متفهماً بل ومعقولاً. فهي تنفتح على الجميع وتمد لهم يدها دون تجاوب، وتريد للكل أن يتجمع على القضية الفلسطينية بلا محاور وتحيزات، وتقبل الدعم ممن تختلف معه في الموقف والسياسات دون أن تكون في جيبه أو مادحة لأخطائه وخطاياه. وهي معادلة صعبة تشبه المشي على حبل رفيع جداً فوق حقل من الألغام يشتعل فيه اللهيب.
الكل غاضب من حماس، الأنظمة وكثير من النخب والشعوب، الذي يعاديها والذي يدعمها والواقفون على الحياد سواء بسواء، وهي غير قادرة ولا تريد صياغة خطاب حاد وصدامي – فضلاً عن أن يكون توتيرياً أو طائفياً – ولا يمكنها رفض أي دعم يقدم لها ما دام غير مشروط وما بقيت غير خاضعة لمن يقدمه سيما في ظل تنكر الطرف الآخر لها، لكنها ارتدادات حالة الاستقطاب في المنطقة وحالة التراجع فيها، والتي يدفع وسيدفع ثمنها الجميع إلى أن يعاد تصويب بوصلة المنطقة بالاتجاه الصحيح مرة أخرى.