حل أزمات المنطقة: السهل الممتنع
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
في أحد المؤتمرات التي بحثت في عام 2016 أوضاع المنطقة وكيفية الخروج من أزماتها، رأى أحد الأكاديميين المعروفين العرب أن مشكلة العالم العربي هي غياب منظومة العمل العربي الرسمي المشترك وبالتالي فالحل هو في تفعيلها وإعادة الروح لها، وأكد على أن “عاصفة الحزم” بقيادة المملكة العربية السعودية هي الفرصة الوحيدة المتاحة وأن على الجميع الالتحاق بها والتخلي عن “عقدة الغيرة والحساسية من دول الخليج” على حد تعبيره.
لم يكن هذا رأي الأكاديمي المعروف وحده، بل هي رؤية أريد لها أن تفرض نفسها بعد انتصار الثورة المضادة وتراجع رياح الثورات العربية التي سميت تجاوزاً “الربيع العربي”. لا أقول إن الرجل جزء من الثورة المضادة أو أنه من داعميها أو المروجين لها بالضرورة، لكن سرديته التقت مع السردية التي تقدمها للشباب العربي: إنسوا السنوات القليلة الماضية وعودوا إلى كنف الأنظمة الرسمية العربية وتحت سقفها.
المشكلة في هذا الطرح هي أنه يقدّم النتائج والأعراض على أنها أسباب، فيرى أن مشكلة العالم العربي الوحيدة هي التمدد الإيراني وبالتالي فالحل هو التكتل خلف عاصفة الحزم لمواجهتها، وهو بهذا يتجاهل – بل ويتناقض مع – قاعدتين أساسيتين وبديهيتين:
الأولى طبية، وتفيد بأنه لا علاج صحيحاً وناجعاً بلا تشخيص سليم ودقيق.
والثانية منطقية، وتقول بأن المشاكل تعالَج بعكس أسبابها، وليس بالإصرار عليها.
مشاكل العالم العربي كثيرة وعميقة ومزمنة، من الظلم إلى الفساد إلى الأزمات الاقتصادية، ومن غياب العدالة الاجتماعية إلى عدم تمكين الشباب، ومن تحالف رأس المال مع السلطة إلى التبعية للخارج. ثارت شعوب بعض الدول على أنظمتها لحل هذه المشاكل، فوقفت ضدها أطراف كثيرة، من ضمنها إيران ودول عربية تبدو اليوم في الصف المقابل.
رأت إيران في الثورة السورية خطراً عليها وعلى حليفها الأسد، فدعمته وشاركت في إفشال الثورة وولغت في الدم السوري وشددت من قبضتها على العراق، واستثمرت الفرصة بدعم الحوثيين في اليمن. لكن في المقابل، وقبلها بكثير، شاركت أنظمة عربية في إجهاض الثورة المصرية ودعمت انقلاباً دموياً دمر البلاد وأهرق دماء الآلاف واعتقل عشرات الآلاف وقزّم مصر ورهنها للصهاينة. نفس هذه الأنظمة العربية دعمت الحوثيين وعلي عبدالله صالح في بداية الثورة اليمنية نكاية في إسلاميي اليمين (الإصلاح) قبل أن يستفحل الأمر ويصل لتهديد حدود المملكة العربية السعودية، إضافة لتدخلات متفاوتة في كل من ليبيا وتونس.
هذه الأحداث التاريخية التي لا ينكرها منصف تقول بما لا يدع مجالاً للشك بأن المشكلة الرئيسة في العالم العربي كانت وأد ثورات الشعوب ومحاربتها، الأمر الذي أشغل المنطقة في صراعات داخلية وترك فراغاً كبيراً استثمرته إيران ثم قوى عالمية أخرى جعلت من العالم العربي – وسوريا خصوصاً – ساحة لصراعها في سبيل تأسيس نظام دولي جديد. شارك الطرفان إذن، الإيراني والعربي الرسميان، في إيصال المنطقة إلى ما وصلت إليه، بغض النظر عن نسبة مسؤولية كل منهما ودوره ونواياه.
كان يفترض في اعتلاء الملك سلمان للعرش في السعودية أن يغير في الأوضاع شيئاً، أو هكذا أمل الكثيرون، لكن المؤشرات في حينها لم تزد عن تبديلات تكتيكية وغابت عنها الرؤى والخطوات الاستراتيجية. واليوم، لا يبدو أن شيئاً كثيراً قد تغير، فخطاب المدير العام لمركز “اعتدال” لمواجهة التطرف والإرهاب يركز على “الإخوان والسروريين”، وخطاب ترمب في حضور القادة العرب صنف حماس كحركة إرهابية دون أن يتحفظ (فضلاً عن أن يرد أو يرفض) أحد، والدعم المقدم لجنرال الانقلاب المصري لا يخفى على متابع، وليس من داع لتحليل الحملة الإعلامية الأخيرة التي حولت الإسلاميين وقطر إلى أعداء.
ثمة رؤية يراد لها أن تفرض نفسها، وانتقلت من العوام إلى الخواص والنخب والأكاديميين، بأن المنطقة مقسومة إلى محورين، الأول “شيعي” بقيادة إيران ويشمل نظام الأسد وحزب الله والحوثيين والميليشيات الشيعية الدائرة في فلك طهران (والعراق؟)، والثاني “سني” بقيادة السعودية ويضم معظم الدول العربية وعدداً من الدول المسلمة. ولا يترك أصحاب هذا الطرح لأحد أي خيار ولو هامشياً للمناورة أو التحفظ، مطبقين شعار بوش “من ليس معي فهو ضدي”، فيتحول بقدرة قادر كل تحفظ أو نقد أو تمهل في شأن ما يوصف بأنه التحالف العربي (ولو من باب الحرص) إلى اصطفاف واضح في صف طهران حتى ولو بدأ بشتمها ولعنِها.
يعرف الجميع أن السوريين لم يثوروا على الأسد لأنه “نصيري” بل لأنه على رأس نظام ظالم قاتل فاسد، وأن الشعوب العربية ثارت على ابن علي ومبارك وصالح والقذافي وهم من “أهل السنة” ظاهراً، وأن من ادعى نصرة الثورة في سوريا تآمر عليها في مصر وتونس واليمن وليبيا، وأن من رفع لواء الدم السوري “السني” لم يعبأ بدماء الآلاف من الشعوب الأخرى “السنية” أيضاً. فلم يكون محور المواجهة في العالم العربي يوماً بين الشيعة والسنة، بل بين المظلومين والظالمين أو بين الشعوب والأنظمة الفاسدة.
المفارقة هنا أن تحويل الصراع إلى سني – شيعي يخدم كلا الطرفين. فلدى إيران مشروع سياسي توسعي في المنطقة تلبسه ثوب المذهب ليتسنى لها حشد الشيعة العرب تحته مستغلة سيكولوجيا الأقليات وعامل الخوف/التخويف، بينما يستثمر الطرف الآخر سردية مظلومية أهل السنة لتجييش الشعوب العربية في هذا الصراع غير المباشر. ترفع إيران شعار المقاومة والممانعة في وجه الكيان الصهيوني فيما هي تسير على أشلاء شعوب ودول مجاورة لتصنع مجدها، وترفع دول عربية لافتة العداء لإيران فيما يبدو مسيراً حثيثاً نحو التطبيع والتعاون مع الكيان الصهيوني.
مفارقات سريالية ساخرة تلك التي نعيشها ونعايشها في عالمنا العربي. فبعض الدول التي تدعي مواجهة إيران هي التي مهدت لها الطريق بإسقاط نظام صدام حسين في العراق وتفتيت المعارضة السورية ودعم الحوثيين وصالح في اليمن، وإيران التي تدعي مواجهة العدو الصهيوني تتحالف مع روسيا التي تنسق معه خطوة بخطوة، والكثيرون يعولون على “المشروع الأمريكي لمواجهة إيران” رغم أن ترمب أعلن بوضوح وصراحة أن بلاده “لن تحارب نيابة عن أحد”، وقوى الثورة الوطنية والإسلامية في العالم العربي نائمة في عسل الكسل والعجز واليأس أو ثائرة على بعضها البعض في خلافات داخلية دونكيشوتية بائسة.
في عالمنا العربي، بات الذين يتحدثون عن خطر المشروع الصهيوني وضرورة مواجهته قلة نادرة والذين يواجهونه أقل بكثير، بينما مسيرة التطبيع الرسمي والشعبي معه تسير على قدم وساق. وفودٌ شعبية وأكاديمية عربية تزور الكيان الصهيوني وتلتقي ساسته، ودبلماسون عرب يشاركون دبملماسييه في ندوات سياسية في الغرب، ومناورات عسكرية تشارك بها دول عربية معه، وحديث لوزير الدفاع الأمريكي عن تحالف بين بلاده والكيان وبعض الدول العربية (دون إنكار أو تحفظ من أحد)، وكلام ترمب لنتنياهو بأن زيارته للرياض أرته كيف أن دولاً عربية كثيرة متحمسة للتعاون مع تل أبيب.
يحصل كل ذلك، مع شيطنة حماس والإخوان والثورات العربية والدول التي ساندتها، ويريد منا البعض أن نغمض أعيننا وعقولنا – وضمائرنا – وأن نسير في الرَّكب ونؤيد ونصفق بلا تحفظ أو استفهام حتى، وإلا كنا من “المتاجرين” بقضايا الأمة المزاودين عليها الوالغين بدماء شعوبها.
في سنوات الثورة الأولى في مصر رفض الكثير من إخوان مصر النقد والنصح واعتبروا أنه لم يكن وقته المناسب وأن الواجب حينها كان العمل والعمل فقط، وقد أثبتت الأيام والمحن خطأ هذا الرأي. واليوم، هناك من يدعي بأن النقد والنصح والتروي ومحاولات التصويب والتصحيح مضيعة للوقت وتخذيل في “المعركة” وسيأتي يوم يعرفون فيه – إن لم يكونوا يعرفون منذ الآن – أن هذا كان خطيئة كبرى.
إن زيادة السرعة وتغذية السير في الطريق الخاطئ لا توصلنا إلى الهدف بل تبتعد بنا عنه، ولذا فالواجب التخلي عن الاصطفاف بمنطق القبيلة أو سيكولوجيا القطيع، وتحديد المشاكل ووصف الحلول وتصويب البوصلة، وترك رفع اتهامات الخيانة والعمالة والتخذيل في وجه كل ناصح مشفق.
يحتاج العالم العربي والمنطقة، والدول المؤثرة في المقدمة منه، إلى تحكيم العقل والحكمة لإجراء مراجعات حقيقية لما مضى وفق نوايا صادقة، وإلى مصالحات داخلية شاملة توقف نزيف الدماء والقدرات والإمكانات وتحفظ المكانات والشعوب والدول، وإلا فإن الاستمرار في نفس المسار الذي أدى إلى المشاكل لن يحلها، بل سيفاقمها وربما يصل بها إلى مرحلة اللاعودة.
إن أزمات العالم العربي والمنطقة بحاجة لعقول نيرة وضمائر مستيقظة وليس إلى أيدٍ مصفقة وحناجر هاتفة.