حسابات الربح والخسارة التركية بعد استفتاء كردستان
الجزيرة نت
شكل استفتاء كردستان العراق وتداعياته المستمرة حتى اليوم تحدياً خاصاً لتركيا على صعيد أمنها القومي وتحالفاتها الإقليمية على حد سواء. وفي مقابل أنها الطرف الأكثر تأثيراً على البارزاني، تبدو أيضاً من الأطراف الأكثر تأثراً من تداعيات الاستفتاء وما جره من تبعات.
علاقة تحالف
رغم الموقف التركي المبدئي في رفض فكرة إنشاء الأكراد لدول/دويلات في المنطقة على أساس عرقي لما لذلك من ارتدادات سلبية على الملف الكردي داخل تركيا وحربها مع حزب العمال الكردستاني الانفصالي، إلا أن علاقات أنقرة في السنوات الأخيرة مع إقليم كردستان العراق وزعيمه البارزاني كانت أقرب للتحالف منها للمواجهة. مردُّ هذا التقارب، الذي أتى بعد رفض تركي شديد لتشكل الإقليم، لثلاثة أسباب رئيسة هي العلاقات الاقتصادية وانتهاج البارزاني سياسات صديقة لأنقرة، والتنافس بين تياره (البارزانية) وتيار أوجلان (الأبوجية) في الحركة الكردية.
على مدى السنوات القليلة الماضية، كان البارزاني أقرب سياسياً لأنقرة منه لبغداد، سيما في أوقات التوتر بينهما مثل ما حصل في أزمة معسكر بعشيقة العام الفائت، فضلاً عن تعاونه معها في مواجهة العمال الكردستاني. فقد مثلت كل من أربيل وأنقرة للأخرى عامل توازن في مواجهة كل من بغداد وطهران، ومثلت تركيا الرئة التي يتنفس منها الإقليم عبر خطوط النفط والغاز والشركات التركية في مجالي البنية التحتية والاستثمار والتجارة البرية التي تزوده بالبضائع التركية المتنوعة.
وبنتيجة كل ذلك، حل البارزاني ضيفاً خاصاً على أنقرة عدة مرات، وحاولت الأخيرة الاستفادة منه في الملف الكردي الداخلي، وقدمت للإقليم والبشمركة الدعم المالي واللوجستي وخدمات التدريب، وغيرها. ولعلها كانت تشعر بأنها قادرة على وقف مسار انفصال الإقليم واستقلاله في حال ذهب البارزاني لذلك الخيار، سيما في ظل رفض كل من بغداد وطهران أيضاً له.
الموقف من الاستفتاء
رغم هذه العلاقة المميزة بين تركيا والإقليم، كان الموقف التركي حازماً وحاسماً منذ اللحظة الأولى في رفض الاستفتاء ومطالبة البارزاني بإلغائه (وليس تأجيله)، وتدرجت التصريحات التركية مع مرور الوقت واقتراب الموعد من اعتباره خطأ إلى التحذير من تسببه بحرب أهلية أو صراع دولي إلى التهديد بالعقوبات وتهديد الرئيس التركي بأن “كل الخيارات” موضوعة على الطاولة.
اعتبرت أنقرة قرار البارزاني الذهاب للاستفتاء دون استشارتها خيانة للعلاقات الجيدة بين الطرفين، ولذا كانت ردة فعلها تجاهه حادة. مروحة الخيارات التركية تنوعت بين السياسي – البروتوكولي والاقتصادي والعسكري، وقد فعّلت أنقرة المجموعة الأولى من الإجراءات المتعلقة بالسيادة عبر التعامل مع بغداد وليس أربيل وإغلاق المجال الجوي التركي أمام الطيران من وإلى الإقليم وإعادة النظر في موضوع المعابر الحدودية.
وما سبق جزء من العقوبات الاقتصادية التي شملت أيضاً وقف الدعم المالي والتدريبي لقوات البشمركة كما أعلن نائب رئيس الوزراء التركي بكير بوزداغ، بينما تتمهل تركيا في تفعيل مجموعة أخرى منها مثل إغلاق معبر الخابور أو وقف الصادرات التركية أو استيراد النفط والغاز رغم تأثيرها الشديد على الإقليم لاعتبارات عدة. وأما الحل العسكري فغير مرجح ومتروك لأي تطورات استثنائية غير محسوبة لا تبدو وافرة الفرص أصلاً، مثل تعرض التركمان – في كركوك تحديداً – للاعتداء أو حصول حالة فوضى في العراق أو إعلان الاستقلال من طرف واحد.
كركوك وما بعدها
إصرار البارزاني على مسار الاستفتاء دون التوافق مع بغداد ورغم تحذير أهم دولتين إقليميتين جارتين له وهما تركيا والعراق جمعهم في إطار ثلاثي في مواجهته، وهو إطار أصر على أن لا تمر خطوته دون ثمن.
عملت بغداد على مسارين متلازمين، السيطرة على المناطق المتنازع عليها مع الإقليم وتقويض مقومات استقلال الأخير وانفصاله. سريعاً، تحركت القوات الحكومية العراقية بدعم من الحشد الشعبي وسيطرت خلال أيام على كركوك كاملة بما في ذلك منشآت النفط والغاز والمطار والقاعدة العسكرية إضافة لمناطق حدودية مع إيران وكافة المناطق المتنازع عليها مع الإقليم. وهو تطور أتى بعد زيارة لقاسم سليماني إلى العراق بما يشير إلى دور إيراني في ترتيب الأمر وانسحاب جزء من البيشمركة قبيله.
بدت أنقرة راضية عن تحرك بغداد ولربما كانت على علم بالتحركات قبل بدئها وأعطتها الضوء الأخضر كما توحي الزيارات المتبادلة بين الطرفين في الفترة الأخيرة، لكن ذلك لا يعني أن النتائج كانت إيجابية بالمطلق بالنسبة لها.
في ميزان المكاسب، تبدو أنقرة وقد حققت هدفها الأساس في جعل الانفصال أحادي الطرف مساراً شبه مستحيل وهدفَها الثانوي في الضغط على البارزاني للعودة عنه إلى خيار التفاوض مع بغداد. ولعله من المفيد التذكير بأن ما تخشاه تركيا هو الانفصال وليس مجرد إجراء الاستفتاء بحد ذاته، والذي تحول بعد التحركات العسكرية الأخيرة إلى ملف محيّد بعد أن فقد الكثير من معناه وفائدته.
لقد كان السقف المرتفع جداً للتصريحات التركية يهدف إلى ثناء البارزاني عن قرار الاستفتاء، بينما أبقت أنقرة الباب مفتوحاً لتراجعه عنه بعد إجرائه عبر الدعوة للحكمة والتعقل والتأكيد على أن “الوقت لم يفت بعد” فضلاً عن عدم الذهاب في الإجراءات العقابية إلى آخر الشوط.
خسر البارزاني كثيراً، إذ فقد كل المناطق المتنازع على تبعيتها خصوصاً كركوك بما تعنيه من رمزية وما تمثله من قيمة اقتصادية، وتعرض لانتكاسة على صعيد شعبيته ورمزيته إذ ظهر وكأنه سياسي مغامر لم يحسب جيداً مآلات قراره الذي أصر عليه، وسيذهب بسبب ذلك للتفاوض مجرداً من أوراق قوة كانت بيده قبل الاستفتاء، فضلاً عما استفاده تيار الطالباني وحتى حزب العمال الكردستاني من هذه الأزمة الأخيرة على حسابه.
ولا شك أن بعض خسائر البارزاني هي خسائر لتركيا أيضاً، حيث تبدو الأخيرة وقد خسرت تكتيكياً أمام إيران التي أحكمت سيطرتها تماماً على العراق وسيطر حلفاؤها (العبادي والحشد الشعبي) على كركوك ومناطق حدودية مهمة لها للوصول لربط كامل أعضاء المحور من طهران حتى لبنان.
كما أن إضعاف البارزاني كثيراً وتقوية منافسيه في الساحة الكردية ليس في مصلحة تركيا، فما زال – وتياره – أقربَ الأطياف الكردية في المنطقة كلها إليها، وما زالت تحتاج إليه في مكافحة الكردستاني، فضلاً عن أن تردّي العلاقات معه قد تدفعه دفعاً للحضن الإيراني أو تقوي بدائله في الإقليم، الاتحاد الوطني الكردستاني الأقرب لطهران وحزب العمال المصنف على قوائم الإرهاب التركية، سواء أجريت انتخابات الإقليم في تشرين الثاني/نوفمبر القادم أم أجّلت كما نتوقع تحت ضغط التطورات الأخيرة.
كما أن تركيا لا تستطيع الوثوق تماماً بدوام الإطار الثلاثي الذي تشكل حالياً بفعل الاستفتاء كتهديد مشترك، فحالة السيولة وسرعة المتغيرات في العراق ومجمل المنطقة لا تسمح بتشكيل تحالفات راسخة ومستدامة بل تدفع نحو تغيير الاصطفافات والانحيازات بشكل مستمر ومتكرر حسب تبدل المصالح والمخاطر، وقد رأينا خلال السنتين الأخيرتين تحديداً أمثلة كثيرة على ذلك.
لا تأمن تركيا جانب إيران تماماً على المدى البعيد حين يزول الخطر الحالي وتقل حاجتها للتنسيق مع أنقرة، وخصوصاً فيما يتعلق بمكافحة حزب العمال الأولوية الأولى لتركيا في العراق، كما أنها قلقة على مصير معسكر بعشيقة الذي ما زالت بغداد تطالب بإغلاقه وجلاء القوات التركية عنه في حين كان البارزاني هو ضمانة بقائه، الأمر الذي يعيد أنقرة للحاجة للأخير لموازنة النفوذ الإيراني وسياسات الحكومة المركزية في بغداد.
وعليه، فمن المتفهم أن تركيا لم تذهب لنهاية الشوط مع البارزاني ولم تقطع شعرة معاوية معه، في ظل تحقيقها أهدافها الرئيسة وحرصها على عدم تعميق خسارتها. فلا هي فعّلت كافة العقوبات الاقتصادية التي هددت بها ولا أوصدت الباب تماماً أمامه، بل يردد أكثر من مسؤول تركي دعوته له لإعادة النظر في كامل المسار، حفاظاً على الإقليم والعراق والمنطقة من الارتدادات السلبية للاستفتاء.
فإذا ما دفعت التطورات الأخيرة في كركوك وسواها البارزاني فعلاً لإعادة النظر في الأمر (وثمة إشارات على ذلك) فلا ينبغي استبعاد دعم تركيا لمسار التفاوض ولعلها تطمح أن تلعب دور الوسيط بين بغداد وأربيل. ولكن من الصعب توقع عودة العلاقات بين أنقرة وأربيل إلى سابق عهدها سريعاً جداً، لكنه خيار لا غنى عنه للطرفين على المدى المتوسط والبعيد إن استطاعا تجنب تبعات الأزمة الحالية، وهو أمر ما زال ممكناً ويبدو مرهوناً بقرار البارزاني في ظل وجود الاستعداد التركي.