حزب الله بين منع الحرب على لبنان ورفع كلفتها
الجزيرة نت
25/6/2024
تشهد الجبهة الشمالية لدولة الاحتلال مع حزب الله حالة تصعيدات كبيرة مؤخرًا، مع ارتفاع ملحوظ في احتمالات توسّع الحرب باتجاه لبنان. وقد كان الخطاب الأخير للأمين العام للحزب حسن نصر الله مختلفًا من حيث المضمون والأسلوب، في ارتباط واضح مع طبول الحرب التي تقرع بخصوص الجنوب اللبناني.
انخراط وتصعيد
في اليوم التالي لعملية “طوفان الأقصى”، أي في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فتح حزب الله ما أسماه “جبهة إسناد” للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، عبر قصف مزارع شبعا المحتلة، وهو ما يحسب له حيث انخرط في الحرب باكرًا جدًا، وقبل أن تتضح مساراتها فضلًا عن نتائجها ومآلاتها.
بيد أن هذه الجبهة بقيت لأسابيع طويلة محدودة الاشتباك والأثر وأقرب لرمزية التضامن وبعيدة جدًا عن إمكانية التأثير في سير العدوان على غزة والذي اتخذ شكل الإبادة بشكل واضح، ما عرّض الحزب للكثير من الانتقادات والمطالبات بما هو أعمق وأكثر أثرًا، رغم الخسائر الكبيرة في المقاتلين والمدنيين والتي فاقت وفق بعض التقديرات عدد شهداء حرب يوليو/تموز 2006م.
أحد التفسيرات لمحدودية انخراط حزب الله في بداية الحرب هو تفاجُؤُه بموعدها، وبالتالي عدم استعداده لاستحقاقاتها، ما دفعه لتمرير مدة من الزمن بالاشتباك المحدود لحين الوصول لنقطة الجاهزية المطلوبة، الأمر الذي يفسّر ارتفاع مستوى الانخراط، وتغير قواعد الاشتباك مع الوقت. لكن، ومن جهة أخرى، من الملاحظ أن مستوى التصعيد ارتفع بشكل ملحوظ بعد الرد الإيراني على قصف القنصلية في دمشق، وتزايد احتمالات الرد “الإسرائيلي” والحرب الإقليمية الواسعة بما قد يشمل استهداف لبنان. كما أن سقف التصعيد ارتفع بشكل كبير جدًا مؤخرًا مع تواتر التصريحات والتقارير “الإسرائيلية” عن هجوم محتمل على لبنان.
ذلك أنّ متابعة مستوى انخراط حزب الله في الحرب في الأسابيع القليلة الأخيرة، وسقف ضرباته في شمال فلسطين المحتلة، تكشف عن اختلافات واضحة في الوتيرة والعمق والأهداف المختارة والأضرار والتأثير عمومًا، ما يعني أنها تحمل رسالة واضحة للاحتلال.
أحد أهمّ خطوات الحزب في هذا الإطار، الفيديو الذي نشره تحت مسمّى “ما عاد به الهدهد”، وشمل أهدافًا كثيرة للاحتلال رصدتها المسيّرات، وهو ما فهمه الكثيرون كرسالة سياسية – أمنية تقول إن هناك أهدافًا أخرى – غير المنشورة – قد رصدها الحزب، وبعضها أهداف حساسة ومهمة، وإن القادر على رصدها قادر على استهدافها هي وغيرها في حالة الحرب الموسعة، وبالتالي فإن أي حرب قد يشنها الاحتلال على لبنان لن تكون نزهة أو دون ثمن، بل ستكون لها كلف كبيرة، وهو ما يعني ضمنًا كذلك أن الحزب يأخذ تهديدات الاحتلال على محمل الجِدّ.
احتمالات الحرب
يبقى السؤال الأهم الذي يشغل الجميع، هو: هل يستمر التصعيد في الجبهة الشمالية وصولًا لحرب موسعة؟ بيد أنه ليس ثمة إجابة سهلة أو جازمة له، رغم توفر الكثير من المعطيات.
في المقام الأول، ليس هناك مصلحة واضحة لأي من الطرفين: الاحتلال وحزب الله، في حرب واسعة. فالأخير أعلن من البداية عن جبهة إسناد لغزة، وعبّر أكثر من مرة عن عدم رغبته في حرب موسعة، والداخل اللبناني لا يساعده على اتخاذ قرار من هذا القبيل من حيث الأزمة الاقتصادية والانقسام السياسي. يضاف إلى كل ذلك أن الوضع الحالي في جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة لمصلحته إلى حدّ كبير، رغم ما تكبّده من خسائر وقدّمه من تضحيات، حيث عدّلت قواعد الاشتباك وهُجِّرَ المستوطنون من الشمال، وطوّر هو من جاهزيته لأي سيناريوهات مستقبلية.
في الجهة المقابلة، لم يحقق الاحتلال في قطاع غزة أيًا من الأهداف الكبيرة التي أعلنها للحرب، باستثناء المقتلة في المدنيين، وتحويل القطاع لمكان غير صالح للحياة الآدمية. ورغم أن بعض التقارير تدعي أن جيش الاحتلال قد يعلن قريبًا عن انتهاء العمليات العسكرية في رفح والانتصار على كتائب القسام وباقي فصائل المقاومة، فإن ذلك لن يتخطى حدود البروباغندا، ولن يقنع أحدًا بالانتصار. فإذا أضيف هذا للضغوط التي تواجهها حكومة نتنياهو داخليًا وخارجيًا، وحسابات الحرب المختلفة مع الحزب عن غزة وخسائرها ومآلاتها المحتملة، يصبح قرار من هذا القبيل مغامرة كبيرة.
ورغم عدم وجود مصلحة جوهرية في الحرب للحزب أو للاحتلال، فإن احتمالاتها تبقى قائمة وكبيرة مؤخرًا. فمن جهة، قد تندلع الحرب – أي حرب – على غير رغبة أطرافها؛ بسبب حسابات خاطئة، أو خطأ غير مقصود، أو تطور غير مرغوب به، أو تدحرج الأحداث تلقائيًا.
الأهم من كل ما سبق أن الحرب لا تقوم دائمًا على أسباب منطقية ومصالح جوهرية، بل قد يكون العكس هو ما يحصل، كما حدث مع الاحتلال مرارًا في هذه الحرب. فعدوان واسع على لبنان قد يشكّل فرصة لنتنياهو – وحكومته – للهروب للأمام بعد الإخفاق العسكري في غزة، وأنه غير راضٍ عن قواعد الاشتباك الجديدة في جبهة الشمال، وأنه يريد أن ينتقم للمستوطنين المهجّرين كي يستطيع إقناعهم بالعودة.
إلى أين؟
لذلك، في الخلاصة، فاحتمالات توسّع المواجهة بين الاحتلال وحزب الله كبيرة وتصاعدت مؤخرًا بشكل ملحوظ. وبالتالي يمكن فهم رسائل الأخير المتكررة في إطار الضغط باتجاه منع الحرب من خلال توضيح كلفتها الضخمة على الاحتلال.
نظريًا، أمام التطورات الحالية ثلاثة مسارات أساسية: إما الاستمرار بالوتيرة الحالية، أو انتهاء التصعيد (باتفاق أو بدونه)، أو توسيع الحرب. ولأن الاستمرار بنفس وتيرة التصعيد وخسائرها للطرفَين ليس منطقيًا على المدى البعيد، قد يكون إعلان وقف إطلاق النار في غزة مخرجًا محتملًا، إذ طالما ردّد الحزب أن وقفه للاشتباك مرهونٌ بوقف الحرب على غزة. بيد أن ذلك، أي وقف التصعيد في جبهة الشمال دون اتفاق واضح مع الحزب يعيد تأطير قواعد الاشتباك، لن يكون مقبولًا “إسرائيليًا”.
لذلك، من المتوقع أن يزداد الضغط الأميركي للتوصل لتفاهمٍ ما بين لبنان و”إسرائيل” مع توقف العدوان على غزة، لكنه مسار محفوف بالمخاطر وغير مضمون النتائج، ما يبقي توسع الحرب احتمالًا حقيقيًا – وربما يكون حتميًا من زاوية نظر “إسرائيلية” – حتى على المدى البعيد.
لكلّ ما سبق، تبقى كل الخيارات مفتوحة فيما يتعلّق بالمواجهة بين الحزب والاحتلال، لكن استمرار الوضع الحالي ليس منطقيًا. تأجيل العدوان على لبنان شهورًا لحين الانتهاء من حرب غزة والتفرغ أكثر لحزب الله يبدو منطقيًا وَفق المعطيات الحالية. لكن شنّ عملية عسكرية محدودة ضد حزب الله ولبنان بغية التوصل لاتفاقٍ ما هو الخيار الأرجح اليوم بالنسبة لنتنياهو، وبالتالي السيناريو الأوفر حظًا واقعيًا، مع بقاء عدد من الأسئلة التي تنتظر إجاباتها، وتحديدًا التوقيت والكلف والنتائج والتداعيات.