حملت السنوات الخمس الأخيرة في المنطقة متغيرات مهمة وضعتها على شفا تحولات تاريخية لم تشهدها منذ مئة عام، أي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى التي رسمت على إثرها حدود الدول القـُطرية الحالية. فالموجة الأولى من الثورات العربية، ثم الثورة المضادة، ثم استدامة الأزمة في سوريا وانتقالها من ثورة شعب على نظام إلى حالة من الحرب الأهلية ثم إلى صراع إقليمي بالوكالة ثم أخيراً إلى نزاع دولي، أدت إلى انزياحات كبيرة على مستوى التحالفات القائمة في المنطقة وكذلك على مستوى السياسة الخارجية لعدد من الدول المؤثرة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.
وفي السعودية تحديداً تزامنت هذه المتغيرات الإقليمية مع نقل السلطة مرة أخرى إلى الإخوة “السديريين” من أبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود باعتلاء الملك سلمان العرش في كانون الثاني/يناير 2015 الأمر الذي أنبأ بإمكانية حدوث تغيير ما في سياساتها.
وقد حدث التغيير فعلاً على ثلاثة مستويات:
الأول، إداري – إجرائي شمل تغييرات كبيرة وسريعة في المناصب القيادية، وهو أمر مفهوم ضمن إجراءات تثبيت أركان الحكم الجديد، وفي إطار المنافسة مع “الطرف الآخر” في منظومة الحكم.
الثاني، على مستوى التوجه والرؤية، اقتضى تصنيف إيران ونفوذها المتزايد في الإقليم وأدواتها في المنطقة على قائمة المهددات، سيما بعد التطورات في اليمن.
الثالث، على مستوى الفعل، إذ تخلت السعودية لأول مرة ربما عن تحفظها في السياسة الخارجية وتركت مبدأ الإدارة عن بعد أو من الصفوف الخلفية لتأخذ المبادرة في “عاصفة الحزم”.
وقد جاءت هذه المبادرة السعودية الجريئة – بغض النظر عن تقييم واقعها ونتائجها – بعد شهرين فقط من تولي الملك الجديد العرش، فأحيت لدى الكثيرين آمالاً عريضة بأن تكون قد غيرت فعلاً رؤيتها للمنطقة وقواها الفاعلة ودولها المختلفة، مما قد يبشر بعهد جديد مختلف التوجهات والأولويات بما يمكن أن يساعد على مواجهة التحديات الكبيرة، سيما في سوريا.
وهكذا، انتشرت في الأوساط الإعلامية، بل وفي أوساط بعض السياسيين والباحثين والناشطين، أحاديث وكتابات ودعوات إلى قيام “حلف سني” بزعامة الرياض لتوحيد “العالم السني” في مواجهة أطماع إيران في المنطقة، وهي دعوات لم تخرج عن التفكير الرغبوي (Wishful Thinking) وإسقاط “ما نريد” على “ما يحدث”.
فمن الناحية النظرية، لا تستطيع الدول – سيما الكبيرة والمؤثرة – القيام بتغييرات جذرية وسريعة على سياستها الخارجية، باعتبار أنها تقوم على مصالح ومحددات ورؤى وأدوار وعلاقات إقليمية ودولية يصعب تعديلها بسرعة وعمق حتى في حال توفرت الإرادة لذلك، فما بالنا إن لم نلحظ – حتى الآن – رغبة واضحة وحاسمة بهذا التغيير المنشود.؟!!
إن السياق العام للسياسات الخارجية للسعودية ما قبل الملك سلمان كانت قائمة على استشعار خطر “الإسلام السياسي” وخصوصاً جماعة الإخوان (في مصر تحديداً) عليها بعد الثورات، خوفاً من تصديرها للخليج وتهديدها للنظم القائمة هناك، مما دفعها لمواجهة أو تحييد هذه القوى على اختلاف بلدان وجودها، ربما مع الاستثناء السوري لأسباب لا تخفى.
هكذا، كانت السعودية ما قبل سلمان جزءاً من حالة “الثورة المضادة” في الإقليم، وإن لم تتصدرها وتقدها، فدعمت الانقلاب المصري مالياً وسياسياً، وصنفت الإخوان جماعة إرهابية، ودعمت الحل السياسي اليمني بطريقة تقلل من نفوذ “الإصلاح” ثم تغاضت عن الدعم المقدم للحوثيين في بادئ الأمر تقليماً لأظافرهم، وشاركت في فرض حالة من الحصار على حركة حماس، وساهمت في تشظي المعارضة السورية وتغذية تعدد الرايات والولاءات في صفوفها، وضغطت لتحجيم دور قطر في الملفات العربية والإقليمية سيما مصر، إلى غيرها من المواقف التي صبت في خانة مواجهة “الخطر الإخواني”. وهي مواقف ساهمت في كبح الثورات واستنزاف القوة الأكثر فاعلية فيها (الإخوان) تاركة خلفها فراغاً هائلاً ملأته إيران – القادرة والطامحة – باقتدار وسرعة ملفتتين، فإلى أي مدى تغيرت الرؤية السعودية مع الملك سلمان اليوم؟
للوهلة الأولى، يبدو التغير السعودي كبيراً وشاملاً، عبر الإجراءات المتلاحقة المتعلقة بمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، من خلال التصريحات والمواقف، والأحلاف، والإجراءات الدبلماسية، بل والمواقف الحاسمة تجاه حلفاء طهران في بعض الدول العربية وفي هذا السياق أتى اعتبار حزب الله منظمة إرهابية بعد وقف الدعم المقدم للجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية.
بيد أن نظرة متعمقة على الواقع والوقائع تثبت أن الرياض لم تتراجع بعد عن اعتبارها “الإسلام السياسي” خطراً، بل أخرته فقط من المرتبة الأولى إلى الثانية – بعد إيران – في سلم ترتيب المهددات، بما يعني تأجيل أو تخفيف حدة مواجهته لا إلغاءها. ومما يدعم هذه النظرة استمرار الدعم السعودي – الخليجي لنظام الانقلاب (رغم تراجعه النسبي) وتحاشي التعاون الواضح والمباشر مع الإصلاح في اليمن كقوة محلية قادرة على ضبط المشهد، وتجاهل الانفتاح الحمساوي على الرياض، وعدم إلغاء قرار اعتبار الإخوان منظمة إرهابية، واستمرار التعاون والتنسيق مع الإمارات، وغيرها من المؤشرات التي كان يمكن أن تغيب أو نرى عكسها لو توفرت الإرادة الكافية لذلك خلال أكثر من سنة وشهرين على حكم الملك الجديد.
وعليه، يبقى الموقف من اليمن استثناءً باعتباره مبادرة اضطرارية للدفاع عن حدود المملكة التي هددها التمدد الحوثي في حديقتها الخلفية، ويبقى المشهد السوري استثناءً آخر متعلقاً بالمواجهة مع إيران وبالموقف السياسي – الشخصي – المبدئي من بشار الأسد كشخص ونظام، أكثر من ارتباطه برؤية إقليمية جديدة مختلفة.
إذن، فالتحليلات/التوقعات حول انخراط سعودي أو سعودي – تركي في حملة برية في سوريا لدعم المعارضة وإنفاذ رؤية البلدين بإسقاط النظام هي تحليلات حالمة بقدر بعدها عن حقائق الواقع والممكن، في ظل عدم قدرة و/أو رغبة الطرفين في تخطي السقف الأمريكي في الملف السوري، رغم غضبهما من تجاهله لهما لصالح التنسيق مع روسيا وإيران وأكراد سوريا. وعليه فإن المشاركة المحتملة في أي عمل عسكري في سوريا تحت راية التحالف الدولي قد لا يعدو كونه مشاركة في سيناريو التقسيم الفعلي لسوريا، والذي سيعني تثبيت النظام ومواجهة بعض فصائل المعارضة – التي دعمت سابقاً – أكثر مما يعني دعمها هي في مواجهته.
يبقى أن نقول إن شعارات مواجهة “الشيعة” في المنطقة على أساس مذهبي، بدلاً من مواجهة النفوذ والطغيان والظلم على أساس سياسي، لعبة خطرة جداً. فلئن أفادت في الحشد وتركيز الأنظار في زاوية واحدة يمكنها التغطية على زاويا أخرى – منها الملف الحقوقي مثلاً – إلا أنها تبقى مقامرة غير مضمونة العواقب بالنسبة لمستقبل المنطقة. فالحروب المذهبية/الطائفية حروب صفرية لا منتصر فيها ولا طائل من ورائها ولا نتائج إيجابية لها، اللهم إلا أنها زيادة في الخسائر وتعميق للتدمير وإطالة في الوقت الذي يجب أن تصل الأطراف بعده إلى قناعة راسخة بضرورة وقف العدوان واستحالة إفناء الطرف الآخر أو التغول على حقوقه وأهمية التحدث والتوافق للخروج من الأزمة.
إن الحاجة لدور مختلف ومتقدم تلعبه الرياض أو الرغبة فيه أو الحث عليه ينبغي ألا يدفعنا لخطأ التنظير لوجوده وتمظهراته فيما هو غائب أو ناقص حتى الآن. صحيح أن سياستها الخارجية النشطة قد أعطت صورة مختلفة لها، وأن تتعاونها الحثيث مع تركيا قد أعطت الأمل بمستقبل مختلف، لكن كل هذا مرهون بإعادة تقييم شاملة تؤدي إلى تصويب أخطاء الماضي وتساعد على بلورة رؤية جديدة مختلفة، وما دون ذلك فمرتبط بمصالح وسياسات ومشاريع متنافسة في المنطقة أكثر من كونها متعلقة فعلاً بحقوق ودماء وحريات
شعوب
المنطقة، وحينها سيعني الأمر أن قوى المنطقة إزاء مشروع قد تتقاطع معه في بعض التفاصيل والسياقات لكن قد لا يمكنها الوثوق به والركون إليه على المدى البعيد، فضلاً عن أن تسير في ركبه وتكون جزءاً منه.