بعد أربع سنوات ونصف على بدء ثورات ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، وسنتين على الثورة المضادة، ما زال الكثير من الحوارات الخاصة والعامة والمقالات والكتابات في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، بل والواقع المعاش على الأرض، يشي بشيء من الضبابية حول مفاهيم أساسية تتعلق بالثورات، أو على الأقل عدم الاتفاق على هذه المفاهيم بين أطراف لها علاقة مباشرة بالعمل التنظيري و/أو الميداني للحراك الثوري.
ولأن الحكم على الشيء فرع من تصوره، وباعتبار أن الفهم هو الذي الأساس الذي يسبق صياغة التقييمات وبلورة المواقف، فإننا نحتاج إلى إعادة النظر في بعض المسلـّمات وكثير من الآراء والانطباعات لدينا حول الثورة ومعانيها ومظاهرها ومآلاتها، فأن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً.
أحد أهم مناطات النقاش هو مفهوم الثورة نفسها، إذ أدت الثورة المضادة وما جلبته علينا من كوارث وخسائر وضحايا إلى تراجع الكثيرين عن التوصيف، فاعتبر بعضهم ما حدث من ثورات مجرد هبة مؤقتة، بينما استسلم البعض الآخر لنظريات المؤامرة والترتيب المسبق، من قبل الغرب أو من قبل المؤسسة العسكرية مثلاً. ورغم أن المصطلحات ليست أولوية، إلا أن الانطباع الذهني هنا مهم جداً، فالثورة عبر التاريخ فعل شعبي غاضب، عفوي ومتدرج، ويمكن وصفه والحكم عليه فقط بعد مضي وقت طويل. لا أعتقد مثلاً أن الثورة الفرنسية كانت تسمي نفسها “ثورة” منذ اليوم الأول، كما أن كتب التاريخ تظهر بجلاء أن هدفها الأولي وشعاراتها المرفوعة حينها لم تكن تتعلق بتغيير النظام ولا التخلص من الملك.
ومن أهم خصائص الثورة التموج والتراجع والمد والجزر، فالثورة في النهاية صراع بين قوى، والأنظمة السابقة – التي حكمت مختلف البلاد لعشرات السنين – تمتلك منظومة قوة ذات تأثير ولم/لن تستسلم لقوى التغيير، ولذلك فقد شهدت الثورات الفرنسية والإيرانية وغيرها حالات ثورة وثورة مضادة، حتى أن الثورة الفرنسية (التي يعتبرها الكثيرون الثورة النماذجية التي يدرسون ويشرَحون الثورة من خلالها) يؤرخ لها البعض بعشر سنوات، والبعض الآخر بسبعين سنة، ما بين جمعية وطنية وملكية دستورية وعودة الملكية والجمهورية الثانية ..الخ.
ويظل أحد أهم نقاشات الثورة هو الشعب ومدى استجابته، وعودته لأحضان النظام القديم بعد خداعه وتحريضه على الثورة، ولعل هذا النقاش – رغم صحة وقائعه – أحد أخطر متاهات الفكر الثوري. إذ أن ألف باء علم الاجتماع وتأريخ الثورات أن الثورة تقوم بها أقلية واعية “تقود” الجماهير، وأن أغلب الشعب تابع لا قائد بل ويخاف التغيير ويخشى من عدم الاستقرار، ولو كانت أغلبية الشعب قادرة على الفعل والحراك والتأثير لما كانت ثمة حاجة للثورة من الأصل. وبالتالي، يسهل على الأنظمة وأجهزة الاستخبارات خداعه وتوجيهه وفق العديد من نظريات علوم الاجتماع والنفس والإنسان، وفي مقدمتها “هرم ماسلو” الذي يركز على حاجة الإنسان العادي لضرورات البقاء مثل الغذاء والأمن. وإذاً، فدور القوى الثورية هو توعية الشعب وقيادته وتنويره وتثويره، وليس شتمه والغضب منه وإلقاء اللوم عليه.
أما حالة اليأس والإحباط (والتشوش الفكري والإلحاد أحياناً) لدى البعض فحدّث ولا حرج، إذ أن الأحلام الوردية والأفكار الطوباوية أدت إلى صدمات عنيفة تسببت هزاتها الارتدادية بهزائم نفسية لا ترى في نهاية النفق أي بصيص للنور. بيد أن دروس التاريخ – مرة أخرى – تقول إن الثورة كرة ثلج فوق منحدر، لن تلبث أن تدرك أسفله، اللهم إلا أن الوقت والجهد والخسائر منوطة بكيفية إدارة الرحلة والمسير. فبذور الثورات تكمن في الثقافة والدين والأدب والثقافة والعمل السياسي المعارض على مدى عشرات السنين، بينما أتت الموجة الأولى من الربيع العربي (كما أفضل تسميتها) كزخات المطر التي أخرجت البراعم من البذور، وسرّعت عملية الوعي والتحرك. إن الشباب ومن خلفه الذي خرج – ولو لأيام – مطالباً بحريته، ثم تنعّم بها ولو لأشهر، لا يمكن أن يعود مرة أخرى لأصفاد الذل والعبودية، والحراك المستمر طوال هذه السنوات رغم كل المصاعب والتضحيات خير دليل على أن عقارب الثورة لا تسير عكس الزمن ولا تعود للوراء.
أما آخر نقاشات هذا المقال – وليس بالضرورة أسئلة الثورة الكثيرة – فهو القدرة على حسم الموقف، حين تتم المقارنة بين شعب – أو جزء من الشعب للدقة – أعزل وبين أنظمة قمع متمرسة به. والسؤال: متى كان ثمة توازن بين شعب ونظامه، أو بين مستعمَر ومستعمِر، أو بين ثائر وطاغية؟ بل السؤال الأدق: متى كانت هذه الموازين هي التي تحدد مصير الشعوب؟ إن ما يحسم الموقف هو الصمود والتصعيد وامتلاك عناصر القوة وكيفية إدارتها. ولست أقصد هنا بالقوة السلاح والعسكرة بالضرورة (وهذا نقاش آخر قد نعود له)، لكنني أقصد المعنى الشامل والأعم للقوة، قوة الموقف، وقوة المعلومة، وقوة التخطيط، وقوة رص الصفوف، وقوة الإعلام، وقوة التصعيد، وقوة الإفشال، وقوة الحشد، وقوة التأثير في الرأي العام، وقوة الترهيب، وقوة المناورة، وقوة الرؤية السياسية ..الخ.
صحيح أن الكثير مما ذكر هنا مجرد بديهيات في علوم الثورة وتطورات الأحداث، وصحيح أننا ذكرناها سابقاً متناثرة بين طيات العديد من المقالات والحوارات، لكن الملاحظ أن هناك عدداً لا بأس به من نشطاء الثورة أنفسهم تختلط عليهم الأمور، وتغلب الصعوبات على وعيهم وتصوراتهم، فاقتضى التنويه والتذكير، لعله ينفع المؤمنين. إن المنطق يقول إن حدثاً بحجم تغيير خارطة ومستقبل المنطقة وشعوبها لا يمكن أن ينتهي بين ليلة وضحاها أو عبر مظاهرات تستمر على مدى أيام – على أهميتها ومكانتها – ودون تضحيات جسيمة، بل من خلال عمل دؤوب وفق رؤية واضحة وخطة متدرجة وبخسائر وتضحيات كبيرة. ولئن كان تفسير المفسر وتوضيح الموضح وتسهيل السهل من أصعب الصعب كما يقول الفلاسفة، فوضعنا الحالي فعلاً من أصعب الصعب ويحتاج منا للإصرار والتذكير وإعادة التوضيح ما أمكننا ذلك، لعل وعسى.