حتى تفتح “طوفان الأقصى” صفحة جديدة في تاريخ المنطقة
عربي 21
14/8/2024
وعلى المستوى العالمي، يتفق كاتب هذه السطور مع التقدير بأن الحرب/العدوان تساهم مع عوامل أخرى في تسريع مسارات بعينها على الساحة الدولية، مثل تغيرات النظام العالمي القائم وربما الوصول لما يشبه حربا عالمية ثالثة، لا سيما إذا ما نشبت مواجهة إقليمية واسعة قد تنخرط فيها الولايات المتحدة.
أما على المستوى الإقليمي، الشرق الأوسط أو المنطقة العربية أو الأمة العربية والإسلامية إن شئنا، فثمة ارتدادات محتملة عديدة بعضها متعلق باحتمال حصول موجة جديدة من الثورات كنتُ أشرت لها في مقال سابق (الربيع الذي انتهى والربيع الذي سيأتي)، وبعضها الآخر متعلق بقوى التغيير في العالم العربي، وبعضها الآخر متعلق بحرب إقليمية أو بالحد الأدنى حرب مع حزب الله في لبنان ارتفعت احتمالاتها مؤخرا.
بيد أن هناك انعكاسا مهما للعدوان المستمر منذ عشرة أشهر بدعم غربي غير مسبوق ولا محدود للاحتلال، وهو العودة لسردية مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني في المنطقة، بما في ذلك خطاب العداء للمشروع الغربي الإمبريالي الذي تمثل دولة الاحتلال أداته الأساسية.
إن النظر فيما يُكتب ويُقال في العالم العربي والإسلامي يشير بشكل واضح إلى تجذر ومركزية هذه السردية، بعدِّهِ مشروعا يستهدف الجميع لا الفلسطينيين وحدهم، وأن انكسار المقاومة الفلسطينية إن حصل سيعني إخضاع المنطقة برمتها للإرادة الأمريكية- “الإسرائيلية” وإذلالها لعقود قادمة.
ومن ملامح ذلك جبهات الإسناد في لبنان واليمن وبدرجة أقل العراق، فضلا عن التوتر المتكرر بين الاحتلال وإيران، والمطالبات للقوى في العالم العربي بدور فاعل ومباشر ضد الاحتلال، وخطاب عدد كبير من القوى والحركات والأحزاب والشخصيات في العالمين العربي والإسلامي، فضلا عن تصريحات عدد من قادة دولهما.
ومع انخراط حزب الله على وجه التحديد فيما أسماه جبهة إسناد لغزة، والتي كان من نتائجها -إضافة لخسائر الاحتلال- مئات من الشهداء بين صفوف قياداته وكوادره على رأسهم القيادي العسكري الأول فيه فؤاد شكر، انتشرت تقييمات ودعوات عديدة لتقليل الحساسيات المذهبية والطائفية في المنطقة.
ولئن تجاوب الكثيرون مع هذه الدعوات، فقد ووجهت كذلك برفض حاد من كثيرين آخرين، إذ ثمة عائق ضخم يقف أمام هذه الدعوات وسرديتها، ألا وهو الدور الذي لعبته إيران والقوى المرتبطة بها (وخصوصا حزب الله) إلى جانب النظام السوري ضد جزء من شعبه خلال كامل العقد الماضي، رغم أن الاصطفاف لم يكن مذهبيا بالضرورة، ما تسبب -مع عوامل وأدوار وأطراف أخرى- بنتائج كارثية في مقدمتها مئات آلاف الشهداء وملايين النازحين واللاجئين والدمار الكبير الذي لحق بالبلد.
بالتأكيد أن هناك من ما زال ينفخ في السردية المذهبية والطائفية في المنطقة لمصالح وأهداف معروفة، لكن ذلك ليس السبب الوحيد ولا الأكبر في المشهد الحالي. إن مقارنة مباشرة بين مواقف أطراف عديدة في المنطقة خلال حرب تموز 2006 والحرب الحالية، رغم أن الأولى معركة مباشرة مع الحزب والحالية إسناد للمقاومة الفلسطينية في غزة، تقول إن شيئا كبيرا قد كُسر فيما يتعلق بصورة حزب الله (وبالتأكيد إيران) ومصداقيته، وبالتالي النظرة له ولمقاومته للاحتلال. ومن المهم الإشارة إلى أن هذا الأمر غير مقتصر على الثوار/المعارضين السوريين الذي واجهوا الحزب والفصائل الأخرى المقربة من إيران ميدانيا، ولكنه ينسحب أيضا على قوى وتيارات وأفراد من مختلف الدول العربية.
بالنظر للتصريحات التي صدرت عن القائد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي وخطابات الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وآخرين من قيادات “محور المقاومة”، نلمس رغبة حقيقية لدى قيادات المحور باستثمار المواجهة الحالية لإعادة الاعتبار لفكرة العداء الأساسي مع الاحتلال وتخفيف الاحتقان الطائفي في المنطقة العربية، والعودة بـ”إعدادات المنطقة” إلى ما قبل الثورة السورية.
ولا شك أن الانخراط في المعركة، وخصوصا إذا ما استمر وتعمق وكانت له تأثيرات مباشرة على الإبادة في قطاع غزة، يساعد على ترسيخ أفكار من قبيل صفحة جديدة في المنطقة؛ تتمثل فيها مركزية المواجهة مع الاحتلال كتحدٍّ عسكري وسياسي وحضاري أمام الأمة العربية والإسلامية ككل. بيد أنه من الواضح أن الانخراط العسكري بحد ذاته ليس ولن يكون كافيا، حتى ولو تحول إلى حرب إقليمية موسعة، من دون التقليل من أهمية ذلك ودلالاته وأثره.
إن المطلوب اليوم، لتوحيد الأمة بكامل قواها في مواجهة الكيان الصهيوني، هو مراجعة حقيقية وعميقة وشاملة للماضي القريب، والخروج بتقييمات جديدة وخطاب مختلف من جميع الأطراف، إذ لا يمكن فتح صفحة جديدة دون ذلك.
ولذلك، لم يكن وصم المعارضة السورية بالعمالة للاحتلال صحيحا ولا موفقا من الأمين العام لحزب الله، بغض النظر عن ملحوظات وسلبيات كبيرة شابت أداء جزء مهم منها. كما أن إيران مطالبة بإعادة النظر في سردية التدخل العسكري في سوريا، لا سيما بعد الخسائر البشرية الهائلة للعقد الماضي في سوريا والتي يتحمل النظام وحلفاؤه الجزء الأكبر منها، وفي ظل مواقف النظام في العدوان الحالي والتي تحمل علامات استفهام كبيرة وحقيقية.
لقد أجْرَت العديد من الدول والأطراف مراجعات لمواقفها في العقد الماضي وخرجت بمواءمات مختلفة، بغض النظر عن رأينا فيها، ونعتقد أن شيئا مشابها ينبغي أن يُنتظر من طهران، خصوصا وأن أي مخاطر استراتيجية أو أبعاد جيوبوليتيكية قد تكون ساهمت في اتخاذ قرار التدخل لم تعد قائمة اليوم.
ومطلوب من إيران قبل غيرها المساهمة في حل سياسي مقبول من جميع الفرقاء في سوريا، إذ أنه دون ذلك سيبقى المشهد الداخلي مرشحا للانفجار كل حين، ويفتح الباب على التدخلات الخارجية وإضعاف سوريا الدولة والشعب أكثر فأكثر. ولعل طهران تدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى أن قوة دول الجوار ووحدتها مصدر قوة لها ولكامل المنطقة، وعامل إسهام حقيقي في مواجهة المشروع الصهيوني تحديدا.
لقد كتبنا قبل سنوات عن الحاجة لـ“ويستفاليا” شرقية (“إيستفاليا” كما يحب البعض تسميتها) يمكن أن تفتح فعلا صفحة جديدة وصحيحة في المنطقة، وهي ممكنة اليوم في ظل حرب الإبادة التي غيرت الكثير في المنطقة والأمة. ذلك أن المصالحات الكبرى تأتي عادة بعد الحروب الكبيرة والشروخ العميقة، لكنها لا تأتي إلا بعد مراجعات صادقة وتراجعات حقيقية ومسارات مختلفة، ما يجعلها ممكنة رغم عمق الجراح وفداحة الخسائر. ولعله يمكن التفاؤل ببعض الإشارات المهمة التي من بينها تصريح نصر الله نفسه في أحد خطاباته الأخيرة بأن “الدماء اليوم تنزف في المكان الصحيح”، وهو محق في ذلك.
تبدو المصالحات الكبرى اليوم ممكنة، وإن مثلت في طريقها عقبات كبيرة وحقيقية لا ننكرها ولا نقلل منها، لكنها تبقى ممكنة -وضرورية- إن صح العزم وصدقت النوايا وبُذل الجهد، وهذا ما نحتاجه اليوم من جميع الأطراف وفي مقدمتها إيران التي يفترض أن تأتي منها الخطوة الأولى.