جدلية المراجعات والتخذيل في الأزمات
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
لا شيء أكثر شبهاً بحالة الانكفاء والابتلاء في واقعنا العربي والإسلامي اليوم أكثر من فترة الحملات الصليبية وهجمات المغول. لقد كسرت الشعوب العربية حاجز الخوف وبدأت مسيرة صناعة التاريخ والمستقبل في 2011، بيد أن حالها اليوم لا يسر إلا الأعداء.
ورغم إيماني العميق بأن ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي من ثورات قامت على الظلم والفساد والتبعية ظاهرة اجتماعية – سياسية لم تنته بعد بل ستستمر في التفاعل وتجدد نفسها أو – وفق تشبيه أحمد داود أوغلو – كالنهر المتدفق الذي لا يمكن وقفه أو منعه مائه من المسير وإن انحرف مساره أحياناً، رغم ذلك إلا أننا اليوم أمام حالة تراجع كبيرة للموجة الأولى من هذه الثورات العربية وتقدم واضح للثورة المضادة في المنطقة ككل.
فالأزمة في سوريا مستمرة بقرار دولي رغم أكثر من نصف مليون شهيد والكل يتفرج على حلب وهي تدمر، ونظام الانقلاب في مصر ثبت أقدامه أو كاد رغم كل أزماته الاقتصادية، واليمن وليبيا ممنوعان من الحل بقرار إقليمي، فيما لم تنج من القصم والكسر السريع المباشر إلا تونس بحلول وسطية وجزئية وتنازلات يمكن اعتبارها انقلاباً ناعماً بدون مبالغة كبيرة.
ديدن البشر أن يتغاضوا عن الأخطاء في حالات التقدم واليسر، وأن يضخموا منها في ساعات العسرة والأزمات، سيما حين يتعثر الحل ويتأخر الفرج وتتكرر الإخفاقات، والواقع العربي اليوم ليس استثناء على هذا الصعيد. تراجَعَ على مدى السنوات والشهور الأخيرة بشكل متدرج ومستمر خطابُ التحفيز والدعم والتفاؤل لصالح خطاب التلاوم والنقد والعتب والدعوات للمراجعات والتقييم واستخلاص الدروس. بيد أن الأمر لا يخلو من جدل له مبرراته فيما يتعلق بالتوقيت والجدوى والنتائج المتوخاة، وأسلوب الخطاب وانعكاساته.
مازالت غالبية الخطاب العربي تصب في خانة التباكي وتحميل العوامل الخارجية المسؤولية وعدم الإثقال على الفاعل المحلي/الذاتي، بينما ازدادت مساحة نداءات المراجعات والنقد الذاتي كثيراً رغم أنها ما زالت أقل بكثير وعلى هامش الخطاب السائد، سيما وأن الكثيرين يرون في هذه الدعوات جلداً للذات وتبرئة للمعتدين و”إفتاءً من القاعدين للمجاهدين” …الخ.
من ناحية مبدئية، لا يوجد حدث سياسي أو تطور اجتماعي له سبب واحد وحيد، بل تتضافر الكثير من العوامل الذاتية والأسباب الخارجية لتصوغ مسارات ثم مآلات الظواهر المختلفة، وبالتالي فإن أي تقييم أو تحليل يحتفي بالخارجي على حساب الذاتي أو يغفل الأول ليكتفي بالثاني ناقص وغير دقيق. ولكن، هل التقييم العلمي الموضوعي والتشريح الدقيق هو وحده المطلوب من عملية النقد؟؟
لو كان ذلك هو المطلوب لفصّلنا في العوامل واحداً واحداً وأفردنا لكل منها وزنه النسبي وتأثيره وتفاعلاته مع الفواعل والعوامل الأخرى ولأمكننا أن نسطر المجلدات الضخمة، لكن فائدتها العملية ستكون محدودة. نعم، لا يمكن استخلاص العبر والاستفادة المستقبلية دون دراسة موضوعية صحيحة، لكن الجهد الأكبر ينبغي أن يصب في مسار المستقبل وما يمكن فعله للتسديد. وعليه، فإن عدداً من المحددات يفترض أن يوضع في الحسبان:
الأول،أن مسؤولية الآخر – الخصم أو العدو – مفروغ منها ومُجْمَع عليها ولا طائل كبيراً من التأكيد عليها، بينما ما زال هناك رفض أو تحفظ بدرجة أو بأخرى على قبول المسؤولية الذاتية.
الثاني، أننا نملك أن ننصح لأنفسنا ومن نساند لأجل تصويب المسار، بينما لن تصل كلماتنا إلى الآخر وإن وصلت فإن إمكانية التغيير لديه أو على يديه شبه معدومة.
الثالث، أن العامل الذاتي هو الأجدر بالتغيير والأقدر عليه من بين العوامل الأخرى، في ظل إصرار الآخر على عدوانه واستمرار اختلال موازين القوى وتراجع الظروف المحيطة، ولذا فالنفع العملي منوط بالتغير الذاتي.
الرابع، أن التدخل/العامل الخارجي استند إلى مواقف وسياسات وأخطاء داخلية ذاتية في كثير من الأحيان أو استغلها، في تناغم مع مفهوم “القابلية للاستعمار” الذي صاغه مالك بن نبي رحمه الله، مما يزيد من أهمية وضع اليد على هذه الأخطاء لعدم تكرارها إن لم نقل محاولة عكس آثارها.
الخامس، أن النص الديني والتجارب التاريخية والمنطق العقلي كلها تقولبأولوية العامل الذاتي ومحوريته وفق مبدأ “قل هو من عند انفسكم” وقانون “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
وبناء على هذه المحددات وغيرها نقول إن التقييم الموضوعي مطلوب وتحميل الخصم/العدو المسؤولية القانونية و/أو السياسية واجب، لكن التركيز على العامل الذاتي ينطوي على أهمية استثنائية من باب رجاء التغيير والتطوير والتحسين، وأما الاستمرار في صب اللعنات على الآخر تحت عنوان التآمر والاستهداف والحقد ونظريات المؤامرة فقد يفرغ شحنات النفوس لكنه لا يغير في واقع الميدان الكثير.
يبقى فقط أن نقول إن التركيز على كوامن النقص الذاتي/المحلي والأخطاء ينبغي أن يأتي في سياق الاستدراك والتعديل وتصويب المسار وتلمس المصلحة وليس الشماتة أو تحميل المسؤولية أو جلد الذات أو التخذيل والتيئيس، فلا نملك هذه الرفاهية. لا بأس أن نلعن المجرمين كل لحظة وفي كل نفس، لكن دعونا أيضاً ننظر فيما يمكن إصلاحه أو تعديله أو تصويب مساره ونخصص له أكبر وأهم مساحات وقتنا وجهدنا وفكرنا، فثمة المصلحة ومظنة التغيير.