جدلية الإخوان والثورة والدور المطلوب

منذ اليوم الأول لثورة الخامس والعشرين من يناير المصرية، مثلت جماعة الإخوان المسلمون المادة الجدلية الأكبر فيها بعد النظام السابق ورموزه، بدءاً من مسألة مشاركتها في الثورة وتوقيتها وخلفياتها، مروراً بالاتهامات الموجهة لها بعدم الثورية وعقد الصفقات مع النظام ثم مع المجلس العسكري، وليس انتهاءً بعدم وفائها بالوعود التي قطعتها على نفسها بعدم الترشح للرئاسة أو لأغلبية مقاعد البرلمان لإتاحة الفرصة لأكبر مستوى ممكن من المشاركة السياسية بعد الثورة.

ليس الفصل في هذه الاتهامات والأحداث هدف هذا المقال، فضلاً عن أننا لا نملك الكثير من الأدلة والقرائن لإثباتها أو نفيها، لكن الشاهد المستفاد منها أن الإخوان كانوا وما زالوا جزءاً مهماً من حالة الجدل الدائرة في المشهد السياسي المصري، بل والعربي، ولذلك دلالته الواضحة والعميقة بما له علاقة بموضوع المقال.

السياق الثاني المهم والمتعلق بموضوع المقال هو الأخطاء الكثيرة والكبيرة التي ارتكبها الإخوان خلال فترة تصدرهم المشهد السياسي في مصر (ولا أقول فترة حكمهم)، بغض النظر عن مستوى ودرجة ونسبة مسؤولية هذه الأخطاء في إحداث أو تسهيل أو تسريع الانقلاب العسكري في البلاد.

اليوم، تبدو مصر أمام مشهد مختلف عن الشهور القليلة الماضية. صحيح أن نظام السيسي قد حاز شرعية قانونية بقدر أو بآخر عبر الاعتراف العربي والإقليمي والدولي به واستقباله في عواصم مهمة من العالم فضلاً عن الأمم المتحدة، لكنه ما زال مفتقداً للمشروعية الأخلاقية الداخلية، فضلاً عن فشله في تقديم إنجاز داخلي على مختلف المستويات يؤسس لحالة استقرار ما زال يفتقدها محلياً. وقد كانت قضية جزيرتي تيران وصنافير مناسبة لإظهار مدى الغضب الكامن لدى قطاعات كبيرة من الشعب المصري على النظام وسياساته.

لقد أعادت حالة تصعيد المظاهرات والاحتجاجات في مختلف المحافظات المصرية إحياء نقاشات الاصطفاف وتوحيد القوى الثورية والمشروع الذي يمكن أن تتوحد عليه، بين رفض الانقلاب والإصرار على “الشرعية” المتمثلة بعدة بنود أهمها عودة الرئيس مرسي.

وعلى هامش هذه النقاشات، وبسبب ما يرى الكثيرون أنه جمود في خطاب الإخوان وتفكيرهم، فضلاً عن حالة الاحتراب الداخلي بين صفوفهم والتي أصبحت معركة تدار في وسائل الإعلام، ثمة طرح يتبناه عدد غير قليل من المتابعين والمراقبين والمصريين بما فيهم أعضاء وأنصار للإخوان، ألا وهو ضرورة تخلي الجماعة عن العمل السياسي واقتصارها على العمل الدعوي والاجتماعي فقط، بسبب فشلها وأخطائها في العمل السياسي ولأن الأخير أخذها من أبرز ما تميزت به ألا وهو الدعوة والتربية.

 

والحقيقة أن هذا الطرح لا يستقيم ولا يفيد من وجوه عدة، أهمها:

الأول، أن الطرح مبني على أخطاء الإخوان – وربما مشاكلهم الداخلية – وهو من هذه الزاوية مستهجن جداً، إذ لا يمكن أبداً حصر الأخطاء بهم دون غيرهم، كما لا يمكن أن يكون مستقبل وجزاء كل من أخطأ في العمل السياسي الاعتزال والتوقف، فهذا لا يصح لا تاريخاً ولا منطقاً.

الثاني، أن الإخوان رغم أخطائهم وواقعهم الحالي ما زالوا قوة شعبية ومجتمعية كبيرة وقوية، بل ما زالت القوة الشعبية الأكبر في مصر، فكيف يمكن أن يكون إبعادها عن العمل السياسي في صالح الثورة أو إسقاط الانقلاب؟!!.

الثالث، أن الثورات تنضج بالتقادم والعمل السياسي يتحسن بالتجربة والخطأ، سيما في واقعنا العربي الذي جرفت فيه السياسة والحياة العامة إلى حد بعيد. وبالتالي فإن من مارس العمل السياسي وأخطأ سيكون أقرب من غيره إلى إمكانية التحسين والتجويد مستقبلاً، بشرط أن يكون مستعداً على المستويين الذهني والعملي للنقد والمراجعة والتصويب. إن نظرة فاحصة على تاريخ الاجتماع السياسي الإنساني وعلى تجارب الغير وخاصة الثورات في التاريخ الحديث تظهر كم الأخطاء والتخبط والمد والجزر في مسيرة الشعوب وبناء الدول والحضارات، قبل أن تصل القوى السياسية لحالة من النضج والقدرة والأداء التي تمكنها معاً من صياغة العقد الاجتماعي والسياسي الذي يكفل الحقوق للجميع والمستقبل اللائق للبلاد.

وعليه، فإن الطرح الذي ينادي باعتزال الإخوان العمل السياسي نهائياً أو مرحلياً لفترة 10 – 15 عاماً للتفرغ للدعوة والعمل الاجتماعي هو مقاربة تحرم العمل الثوري أو السياسي المناهض للانقلاب من أكبر حركة مجتمعية ذات ظهير شعبي وأكثر القوى السياسية احتكاكاً بالعمل العام في السنوات القليلة الأخيرة، وهذا لعمري خسارة كبيرة لا تملك مصر رفاهية تحملها في الوقت الراهن، هذا إن افترضنا أن النظام سيسمح للإخوان أو غيرهم بالعمل المجتمعي أو الدعوي أو التربوي.

ما يحتاجه الإخوان – وغيرهم – هو لملمة صفهم الداخلي بسرعة وبأقل الخسائر الممكنة، وتحديد رؤيتهم وخطة عملهم بشكل واضح بعد مراجعة “حقيقية” لأداء وأخطاء الفترة الماضية، والالتقاء مع القوى السياسية الأخرى في عمل مشترك وتعاون مرحلي (إذ يبدو من الصعوبة بمكان التجمع في تحالف سياسي شامل)، لإعادة ضخ الدماء في الشارع واستثمار غضبه لاستدامة حالة التصعيد ضد النظام، النظام الذي لم يعد ممكناً منذ فترة طويلة أن يسقط بالضربة القاضية بل فقط بالنقاط.

أما على المستوى الاستراتيجي، فيحتاج الإخوان إلى مراجعات أعمق من تقييم الأداء السياسي، يمتد إلى منظومة الأفكار المرجعية الحاكمة والتصورات عن الدولة والمجتمع والدين والسياسة والعمل العام والعلاقات البينية بينها جميعاً، وإحداث التمايز – وليس الفصل التام الناجز – بين السياسي والدعوي فيها على قاعدة التخصص والكفاءة، لإعادة صياغة مشروعهم الحضاري من جديد على أسس قابلة للنجاح والإنجاز والاستمرار.

هذا هو المأمول، لكنه لن يكون ممكناً طالما استمر الجمود القيادي وأزمة الأفكار والنزاعات الداخلية بين صفوف الجماعة، وهو ما يجعلنا نقول إن أولى خطوات إسقاط الانقلاب  – لمن يدعي أنه يريد فعل ذلك – هي تحصين الصف الداخلي ومد يد التعاون للآخر الشريك في الوطن على أسس واضحة بعيدة عن التنازلات المفرطة والقطيعة المضرة، وهو ما يضع الإخوان أمام مسؤولية تاريخية تتجاوز واجبهم نحو أعضائهم وأنصارهم لتصل إلى دورهم على مستوى مصر والعالم العربي، بيد أن من يطالب بالحرية والديمقراطية والعدل والمساواة وحفظ الحقوق يجب أن يكون مطبقاً لها على نفسه قبل مطالبته غيره بها.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

تركيا وداعش والمنطقة الآمنة

المقالة التالية

ناغورنوكارباخ: ساحة صراع جديدة بين روسيا وتركيا

المنشورات ذات الصلة